صراع الشرعية : من هو الغائب؟

نبيل منصور
الحرب في السودان لا يمكن أن تُنتج منتصرًا. فحتى لو حسم أحد الطرفين العسكريين الصراع لصالحه – الجيش أو الدعم السريع – فإن النتيجة لن تكون نهاية للحرب، بل بداية لمرحلة أكثر كارثية، لأن الدوافع التي تحرك كليهما لا تنبع من مشروع وطني، بل من أطماع سلطوية وحسابات تتناقض مع فكرة الدولة.
ومهما طال أمد الحرب، فإن نهايتها ستكون بالتفاوض، لا بالحسم العسكري. وهذه حقيقة يدركها الداخل والخارج معًا، لكن المؤسف أن جميع الأطراف تتصرف وكأن النصر ممكن، فتواصل التدمير والاحتراب وكأن الشعب لا وجود له.
من جهة أخرى، يتعامل المجتمع الدولي مع الطرفين – الجيش والدعم السريع – كقوتين “شرعيتين” بحكم وضعهما ما قبل الحرب. فهما كانا جزءًا من الدولة الرسمية ومن الوثيقة الدستورية، ولهذا يُطلق عليهما معًا صفة “طرفي الحرب”، ولا يُمنح أي منهما شرعية مطلقة، بل تُوزَّع عليهما بشكل واقعي، كأمر واقع لا كحق أخلاقي أو سياسي.
لكن هناك طرفًا ثالثًا، هو القوى السياسية والمدنية، هو الأحق بالشرعية من حيث المبدأ:
لا يحمل السلاح
لم يرتكب المجازر
ويمثل الإرادة الشعبية التي نادت بالتغيير السلمي
ومع ذلك، فإن هذا الطرف لم يعمل بجدية ليثبت شرعيته في لحظة كانت كافية لقلب المشهد برمّته. لم يتوحد، لم يشكل جبهة ضاغطة، ولم يملأ الفراغ السياسي الذي تمدد فيه العسكر. ولو أن القوى المدنية والسياسية اتحدت – ولو بحدها الأدنى – لكان ممكنًا فرض مسار تفاوضي حقيقي، ينهي الحرب ويستعيد الدولة، ويضع الفاعلين العسكريين في مكانهم الطبيعي كقوى انتقالية، لا كأوصياء دائمين على الوطن.
الأسوأ من ذلك أن الدعم السريع بدأ يستثمر هذا الفراغ بذكاء خطير، مستقطبًا عددًا من القوى المدنية إلى صفوفه، رافعًا شعارات التغيير ومبديًا مرونة تجاه فكرة المحاسبة والمساءلة. بينما في الجهة الأخرى، فإن الجيش – أو ما تبقى منه – يسير خلف قوى النظام البائد التي تسعى لاستمرار الحرب بأي ثمن، لأنها ببساطة لا تملك مخرجًا سياسيًا، ولا مستقبلًا في ظل سلام حقيقي.
الجيش، بتكوينه الحالي، ميليشيا كيزانية أكثر من كونه مؤسسة وطنية. سلوكه، خطابه، تبعيته السياسية، ورفضه الانفكاك من قبضة الإسلاميين كلها تؤكد أنه لم يعد يمثل الجيش السوداني كما ينبغي له أن يكون. والنتيجة هي أن هذه التبعية تفقده أي أفق سياسي مستقل، وتجعله أداة في يد من يريدون تأبيد الحرب – لا من يريدون حسمها أو إنهاءها.
فالكيزان يرون في الحرب ملاذًا آمنًا للهروب من المحاسبة، وفرصة لإعادة تمكين أنفسهم، ونهب ما تبقى من ثروات البلاد، بل إنهم يجدون في بيئة العقوبات والانعزال الدولي غطاءً مثاليًا للفساد، تمامًا كما فعلوا في سنوات الإنقاذ الأخيرة. أما الدعم السريع، فله مصالحه أيضًا، ولا يقل استثمارًا في الحرب، لكنه على الأقل يحاول أن يقدّم خطابًا جديدًا – وإن كان انتهازيًا – في حين لا يفعل الجيش سوى إعادة إنتاج خطاب الماضي بكل عنفه وفشله.
وفي كل هذا الخراب، يبقى الخاسر الوحيد هو الشعب السوداني، لأنه ببساطة بلا قوى سياسية مسؤولة وموحدة. قوى كان من الممكن أن تحسم هذه الحرب منذ أيامها الأولى لو أنها ارتفعت إلى مستوى اللحظة، لكنها اختارت التردد، والانقسام، والاصطفاف وراء أحد السلاحين بدلًا من اصطفافها خلف الشعب.
إن الشرعية ليست في فوهة البندقية، ولا في موقع من يحتل الأرض، بل في من يملك مشروعًا وطنيًا جامعًا. وحتى الآن، لا أحد يملكه، والفرصة لا تزال قائمة لأن تملكه القوى المدنية، إن أرادت أن تخرج من صمتها، وتتحدث باسم الوطن لا باسم الفصائل والمصالح.
في الستينات في أوج قوة الحزب الشيوعي الفرنسي كانت إجابة زعيم الفوضويين على السؤال كيف يمكن أن تنجح الثورة في فرنسا كالآتي؛
لن تنجح الثورة في فرنسا بدون الحزب الشيوعي الفرنسي، ولكنه لن تنجح أيضاً بوجود (هذا) الحزب الشيوعي الفرنسي.
وأنا أقول أننا نحتاج للحزب الشيوعي السوداني حتى تنجح الثورة وتبلغ مقاصدها ولكننا لن ننجح في الثورة والتغيير بوجود (هذا) الحزب الشيوعي السوداني.