المعلم والسياسة : حين يكون الصمت خيانة للرسالة

حسن عبد الرضي الشيخ
في ظل واقع قاهر، تُهضم فيه حقوق المعلمين وتُقمع فيه أصواتهم، لا يزال بيننا من يظن – أو يتوهم – أن النقاش السياسي ترف لا يليق بالمعلم، أو أنه “تشويش” على القضايا المطلبية التي تخص شريحة التعليم. هذا القصور في الفهم، بل وهذا القصر في النظر، لم يعد فقط عائقًا أمام أي محاولة جادة للتغيير، بل أصبح في ذاته آلية جديدة من آليات القمع.
إن الحكومة التي تؤخر المرتبات، والوزارة التي تماطل في الترقيات، والسلطة التي تكمم الأفواه، كل أدواتها سياسية بامتياز، فكيف يواجهها من يصرّ على الابتعاد عن السياسة؟! من يزعم أن بالإمكان المطالبة بالحقوق في عزلة عن السياسة، إما أنه لا يدري ما السياسة، أو أنه يتواطأ – بوعي أو دون وعي – مع من يظلموننا صباح مساء.
إن المعلم الذي لا يرى في السياسة وسيلة لتحليل الواقع، وأداة لفهم مكامن الظلم، هو – في تقديري – غير مؤهل لتعليم النشء، لأنه ببساطة “فاقد الشيء”. فكيف يُعقل أن يُربِّي طالبًا على الوعي والحرية وحقوق الإنسان، وهو ذاته يخشى الكلام في السياسة؟!
والمؤلم أن بعض المعلمين – وهم قلة لكنها مؤذية – لا يكتفون بالسكوت، بل يحاولون صرف زملائهم عن أي حديث سياسي، مستخدمين عبارات مشبعة بالإهانة لزملائهم، مثل: “ما هذا الهراء؟ كنت أحسب أن القروب معلمون ضد الظلم، فإذا به إساءات وكذب وافتراء ضد فئة يعرف الجميع مكانتها في عهدها”.
ألم يكن من الاجدى مخاطبة الزميل بكلمات لائقة؟ فهل هنالك بيان أوضح من هذا يفصح عن ان من يردده متورط في السياسة حتى اذنيه؟ ألا يدلل هذا القول على ان من يعيب على زملائه الحديث في السياسة انه والغ في الاصطفاف مع نظام القهر الذي سام المعلمين سوء العذاب؟! أليست هذه بالضبط سياسة “الكيزان” نفسها: التنصل من المسؤولية، وتبرير الظلم، وشيطنة أي صوت حر؟
ثم يتابع هذا الزميل – باندفاع لا يخلو من استعلاء – قائلاً: “أنا لا أدافع عن مجموعة، ولكن أذكر الحقائق، وكل من لم ير ذلك أحمق أو حاقد أو جاهل … شوفوا مصالحكم بلا سياسة”.
وهنا نتساءل: أليس هذا عينه ضيقا بالراى الأخر؟ بل أليس هذا خضوعًا مهينًا لمن يسرقون جهدنا وكرامتنا، ويطالبنا بالصمت والرضا؟ إن من يحني ظهره للجلاد، ثم يطلب من الضحية ألّا تشتكي، لا يمكن وصفه بغير التواطؤ، مهما تزيّن بعبارات الحياد والتجرد.
والمؤسف أن بعض الزميلات أيضًا، يسهمن – بحسن نية أو بجهل – في “دغمسة” القضايا الأساسية، فنجد من تقول: “القروب إذا سياسي ورونا، عشان الناس تعرف هي قاعدة وين بالضبط”. (في ذمتك، ح تقولي شنو؟) .
والحقيقة أن مجرد هذا السؤال هو في ذاته سؤال سياسي، ومحاولة لتحجيم المطالب المشروعة وتغليفها بغلاف وهمي من “الموضوعية الزائفة”. وقد ردت عليها إحدى الزميلات بردٍ واعٍ ومُحكم: “كلامك دا زاتو سياسي”.
وهو الرد الذي يكشف مدى هشاشة فكرة أن السياسة نقيض للمطلبية، أو أنها “ممنوعة” في مجموعات التعليم، بينما كل شؤون التعليم مناهجًا وتعيينات وترقيات وتمويلًا، هي في الأصل مسائل سياسية صِرفة.
أما من تقول: “الغلط من الأول كان تناول السياسة في قروب مفروض إنه للتعليم”،
فهو قول لا يدرك قائله – على ما يبدو – أن التعليم نفسه قرار سياسي، وأن التدهور المريع الذي نعيشه هو نتيجة مباشرة لسياسات حكومات فاشلة، لا ترى في المعلم أكثر من أداة بائسة لنقل الجهل الممنهج. فهل يمكن فعلاً الحديث عن التعليم بمعزل عن السياسة؟! وهل بناء المدارس وتطوير المناهج وتمويل المرتبات قرارات فنية بحتة؟!
وفي خضم هذه الضبابية، يبرز صوت الأستاذ الواعي، الذي قالها بوضوح يحسب له: “يا ناس، قضايا التعليم لا يمكن أن تناقش بعيدًا عن السياسة … وحتى المطالب المطلبية تحتاج لرؤية سياسية”.
بل ويزيد عليه آخر بقوله البسيط والعميق في آنٍ معًا: “أي حاجة مربوطة بالسياسة، حتى أكلنا وشرابنا وحركتنا … لو قلت ما داير أكل عدس، حايقولوا ليك ما تتكلم في السياسة، البلد في حالة حرب”.
في الختام … لسنا هنا نروّج لتحزّبٍ أو انحيازٍ أعمى، بل ندعو إلى الوعي السياسي المسؤول، الذي يربط بين السبب والنتيجة، ويكشف جذور القهر، ويصنع أداة للمواجهة. أما الصمت، فهو تواطؤ، وأما تبرير الظلم، فهو خيانة لمهنة التعليم ذاتها.
فيا معلمي ومعلمات هذا الوطن المنكوب، إن لم تكونوا أنتم في مقدمة الصفوف ضد الظلم، فمن إذن؟!
فترة الإنقاذ سيئة الذكر، أدخلت في عقول الكثيرين، أن الكلام في الشأن السياسي رجس من عمل الشيطان..للأسف هنالك الكثير من المجموعات التي يفترض أنها مستنيرة، منهم المعلمون وأساتذة الجامعات والمهنيون، ينادون بعدم الخوض في الموضوعات السياسية داخل مجموعات التواصل الاجتماعي..بينما السياسية لا تنفصل عن الحياة الاجتماعية.