مقالات وآراء

أنماط طرائق التفكير السوداني (٢٦)

عوض الكريم فضل المولى

وحسن عبد الرضي

 

اختلالات بناء الدولة السودانية بين الماضي والمستقبل

 

يُعد السودان من الدول التي امتلكت فرصًا واعدة لبناء دولة قوية ومتماسكة، بفضل موارده الطبيعية الغنية، وموقعه الجغرافي الاستراتيجي، وتنوعه الثقافي والاجتماعي، وريادة أبنائه في التعليم، وبناء منظمات المجتمع المدني، كالنقابات والاتحادات والروابط المدرسية والجامعية، وإنشاء الطرق الصوفية والروابط المناطقية عبر التاريخ.

إلا أن هذه الفرص لم تُستثمر بالشكل الأمثل، بل تحوّلت إلى تحديات هيكلية عميقة، أدت إلى سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل واختلالات في طرائق التفكير الجمعي البنّاء في المشهد القومي.

 

كان لبنية الدولة التي ورثها السودان من الاستعمار البريطاني-المصري أثر بالغ في إضعاف أسس الدولة الحديثة، رغم تمرد المثقفين السودانيين وسعيهم للتحرر. فقد رسّخ الاستعمار إدارة مركزية تقوم على استبعاد الأطراف، بمساعدة بعض أصحاب المصالح الضيقة والنفوس الضعيفة، والاستعلاء العرقي والديني، مما أسّس لتمييز جهوي وثقافي لا يزال يلقي بظلاله حتى اليوم.

 

كما أن غياب المشروع الوطني الجامع منذ الاستقلال عام ١٩٥٦م، وفشل النخب السياسية في بلورة رؤية وطنية تتجاوز الانتماءات العرقية والدينية والجهوية، أدى إلى انقسامات داخلية عميقة، تُرجمت لاحقًا في صراعات مسلحة، كالحرب الأهلية في الجنوب، والنزاع في دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، وشرق السودان، وحديثًا في الوسط، ووسط أبناء الجزيرة، وظهور “الدروع المتنوعة”، إلى جانب الجماعات الإسلامية المسلحة.

 

شهد السودان سلسلة من الانقلابات العسكرية، المعلنة وغير المعلنة، سواء تلك التي نجحت في الاستيلاء على السلطة أو التي أُجهضت في مهدها. بدءًا بانقلاب الفريق عبود (١٩٥٨م)، ثم نميري (١٩٦٩م)، وأخيرًا البشير (١٩٨٩م)، وانقلاب البرهان-حميدتي والكتلة الديمقراطية (٢٠٢١م).

لقد عطلت هذه الانقلابات التطور الديمقراطي، وكرّست الحكم السلطوي والإيديولوجي والجهوي الدكتاتوري، تحت مسميات متعددة مثل “الوطني”، و”الإنقاذي”، و”التصحيحي”، بحسب ما تجود به القريحة الشاعرية، مما جعل القرار السياسي محصورًا في يد نخبة ضيقة، وعمّق أزمة الشرعية السياسية.

 

أدى سوء الإدارة، والفساد، واعتماد الاقتصاد على مورد وحيد (النفط أو الذهب)، إلى تدهور الوضع المعيشي. ومع انفصال جنوب السودان في ٢٠١١م وخسارة جزء كبير من عائدات النفط، تفاقمت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، مما زاد من هشاشة الدولة.

 

ورغم أن ثورة ديسمبر ٢٠١٨م أسقطت نظام البشير في ٢٠١٩م، إلا أن الفترة الانتقالية اتسمت بالتعثر، نتيجة الصراعات بين المدنيين والعسكريين من جهة، وبين الإسلاميين والعلمانيين، والجهويين، وأصحاب الغبن الاجتماعي من جهة أخرى، المتأثرين بتراكمات الإرث الاستعماري وغيره من الغبائن الكامنة، التي لا بد من الاعتراف بها لمعالجة جذور الأزمة.

وتفاقمت الأوضاع بانقلاب ٢٠٢١م، واندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في ٢٠٢٣م، ما أدخل البلاد في دوامة عنف جديدة، أفرزت حقائق مريرة، وجلبت ثقافات دخيلة وسلوكيات غريبة على المجتمع السوداني، وعلت فيها نبرة العنصرية والجهوية، والتمترس خلف الإثنية والقبلية، ما أدى إلى تهديد كيان الدولة ذاته.

وتفكك النسيج الاجتماعي، وازدياد الخطابات الجهوية والعنصرية، وتوسع النزوح والتهجير، والدمار الذي طال البنية التحتية، كلها عوامل أضعفت وحدة السودان الاجتماعية والثقافية، وفتحت الباب أمام سيناريوهات أكثر خطورة، مثل التفكك أو الفيدرالية الهشة.

 

وتُعاني الدولة من ضعف مؤسساتها الأساسية، خاصة القضائية والتعليمية والصحية، ما يعرقل أي محاولة لإعادة البناء، ويُعزز حالة عدم الثقة بين المواطن والدولة.

 

آفاق المستقبل وإمكانات إعادة البناء

 

رغم كل هذه التحديات، لا يزال السودان يمتلك فرصًا حقيقية للنهوض، إذا ما توفرت الإرادة السياسية والرؤية الوطنية الجامعة. ومن بين المداخل الممكنة لإعادة بناء الدولة:

 

صياغة دستور دائم بمشاركة واسعة وشفافة، تشمل الجميع، من حيث العملية والمحتوى، بحيث يشعر كل مواطن أن هذا الدستور يعبر عنه، ويضمن حقوقه وحرياته، ويؤسس لحكم مدني ديمقراطي.

 

إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والعسكرية لتكون تحت سلطة مدنية، وتؤدي دورها الوطني لا السياسي.

 

تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية لمعالجة مظالم الماضي، وبناء مستقبل مشترك.

 

إطلاق مشروع تنمية شاملة يربط المركز بالأطراف، ويقوم على تنويع الاقتصاد، وتطوير التعليم والصحة.

 

إن بناء الدولة السودانية الحديثة يمر عبر الاعتراف بالأخطاء التاريخية، وتجاوز الأطر الضيقة للانتماء، واعتماد نهج تشاركي يضمن لجميع مكونات المجتمع صوتًا ودورًا.

ورغم ضبابية المشهد، لا يزال المستقبل مفتوحًا أمام احتمالات النهوض، إذا توفرت القيادة الحكيمة، والوعي الشعبي، والدعم الإقليمي والدولي اللازم.

 

ونقولها بوضوح : لا تحول إلا بتحرير الفكر، وتطور الوعي، ورسم سياسة تعليمية حديثة، تُبنى على متطلبات بناء الدولة السودانية المأمولة.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..