مقالات سياسية

الهيمنة المُقَنَّعة … تنازع الطغاة باسم الخلاص

دكتور الوليد آدم مادبو

ليس ما يجري في الشرق الأوسط اليوم صراعًا تقليديًا بين دول قومية ذات مصالح متباينة، بل هو صراع بين رؤيتين أخرويتين (Eschatological Visions) تتنافسان على احتكار المعنى، وعلى إعادة صياغة المجال الرمزي والسياسي للمنطقة. إسرائيل وإيران ليستا نقيضين بقدر ما هما تعبيران عن نزعتين سلطويتين متنافستين، لكلٍ منهما أدواته، ورموزه، وسرديته المطلقة.

النظام الصهيوني هو تجلٍّ لحداثة استعمارية ترى في ذاتها مركز العالم، وفي الآخر العربي والمسلم (بل حتى اليهودي الشرقي) كائنًا ناقصًا، مهمته أن يصمت أو يُعاد تشكيله.

نتنياهو، ومن ورائه المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، لا يتصرف كسياسي في نظام ديمقراطي، بل كقائد طائفة أو عصابة مصابة بجنون الاصطفاء العرقي، تمارس عنفًا بنيويًا متقنًا تحت لافتة “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” أو “واحة الديمقراطية”!

لا زال الغرب يواصل تسويق إسرائيل كمجال سياسي محايد يمكن فيه تداول الأراء وإحداث التثاقف بين القوميّات المختلفة كما تُوزّع أوراق اللعب في نادٍ ليبرالي. وهذا محض خديعة. فإسرائيل، كما قال إيلان بابيه، هي مشروع استعماري لم ينتهِ، بل تحوّل من احتلال عسكري إلى احتلال معرفي، ومن استعمار مباشر إلى هيمنة بنيوية تتسلل إلى مفاصل فلسطين المحتلة والعالم العربي.

وقد وصف المفكر اليهودي ييشعياهو ليبوفيتش هذا التحول الصهيوني بدقة حين قال: “لقد أصبحت الصهيونية دينًا مدنيًا، عبادة للدولة والجيش، وتحويلٌ للهوية إلى سلاح.” فمن سوريا إلى لبنان، ومن غزة إلى طهران، تتمدد الذراع الصهيونية كمشروع هيمنة، لا ككيان دفاعي. إنها رؤية ترى “الأمن” لا كحق جماعي، بل كمبرر أبدي للعنف، و”العدو” لا كتهديد ظرفي، بل كضرورة وجودية تبرر استمرار الاستيطان والقصف والتهميش.

ليس جوهر الإنزعاج الإسرائيلي في نظري من النظام الإيراني أنه ثوري أو إسلامي، بل لأنه يُحرج الغرب، يكشف زيف الرواية الليبرالية، ويدفع شعوب المنطقة إلى مساءلة شرعيات ما بعد سايكس بيكو. لكن الرد الإيراني للأسف لم يأت بصيغة تحررية، بل كصوت سلطوي مضاد، يقوم على تصدير الثورة بدل إصلاح الداخل، ويُقصي المجتمعات غير الشيعية بدل احتوائها.

ظل النظام الإيراني الثيوقراطي — رغم الضغوطات والتحذيرات — مُصرًا على إعادة إنتاج نسخته الخاصة من الاستعلاء باسم “المقاومة” وولاية الفقيه”. فهو نظام مركزي يحتكر القرار والرمز، يُقصي غير الشيعة، ويحتقر التعدد، والأقليات، والمرأة، ويدير الدولة كأنها ثكنة مقدسة لا تحتمل الرأي الآخر. وقد تنبه المفكر الإيراني عبدالكريم سروش إلى حقيقة مفادها: “حين يتحول الدين إلى دولة، فإن كليهما يفقد جوهره. يتحول الإيمان إلى شرطة، والسلطة إلى فتوى.”

وفي غمرة هذا الجنون، يجب أن لا ننسى أن الخيار ليس بين قنبلة نووية إيرانية أو قصف إسرائيلي متعسف، بل بين عقلانية تحريرية تُعيد بناء الدولة خارج منطق العقيدة، وخارج إرث الاستعمار. فقط هذا النموذج هو الذي يُربك سرديات القوتين، ويقوض شرعيتهما الرمزية، ويعيد للمنطقة أملًا لا يُشترى بالصواريخ، ولا يُصاغ بالبيانات العسكرية.

إن نهاية المشروع الصهيوني الاستيطاني لا تكون بإبادة إسرائيل، بل بتفكيك منطقها الإمبريالي العدائي. ونهاية الطغيان الإيراني لا تكون في اغتيال المرشد، بل في تحرير الدولة من سيطرة “الحرس الثوري” ومن سطوة المليشيات وتحويلها إلى عقد اجتماعي يسترد به المواطنون حقوقهم الدستورية وتستعيد به الدولة مكانتها وسط الأمم. حينها فقط، يولد شرق أوسط لا يستمد معناه من ماضي الخوف، بل من أفق الحرية.

إن المشروع الأممي الذي نحتاجه اليوم لا يقوم على الانحياز الأعمى لمحور ضد آخر، بل على تفكيك كلا المحورين من جذورهما الإقصائية. نحتاج إلى مشروع علماني–ديمقراطي، غير مركزي، يعترف بالحقوق الإثنية والثقافية، ويربط المواطنة بالعدالة التاريخية لا بالهوية الطائفية. دولة تعتمد على جيش وطني موحّد، يُبنى على الكفاءة والمواطنة، ولا تعتمد على جيش عقائدي مشبع بالعنصرية والتعبئة الإثنية.

ختامًا، إننا أمام معركة طويلة ضد منظومات تمثّل نفسها لا شعوبها، وتتحدث باسم الغيب بينما تمارس الإقصاء باسم الحداثة أو الجهاد. ولا بدّ للعقلاء من أن يطرحوا رؤية ثالثة، جذرية، تُخاطب الإنسان، وتُعيد للشرق حقّه في الحلم، لا في البقاء فقط.

الشرق الأوسط الجديد حسب مفهوم ساكنيه ليس تحالفًا نوويًا مدمّرًا ولا صفقة سياسية مجحفة، بل حلم عادل يُعيد الإنسان إلى مركز الحرية والسلام والمعادلة. مشروع يتجاوز الطائفة والعِرق، ويكسر الثنائيات الزائفة بين “المقاومة” و”الاستسلام”، بين “الرسالة” و”العقل”.

نقلا عن جريدة “العربي الجديد”

‫4 تعليقات

  1. انطلق البرنامج النووي الإيراني عام 1957 باتفاقية تعاون نووي مدني مع الولايات المتحدة، لكنه شهد تحولات كبرى بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، التي أدت إلى تدهور العلاقات مع الغرب وخروج الشركات الأجنبية وخبراء الذرة من البلاد. على مدى عقود، خضع البرنامج لمفاوضات طويلة انتهت بتوقيع اتفاق “خطة العمل الشاملة المشتركة” مع مجموعة “5+1” عام 2015 بهدف تقييد أنشطة إيران النووية وضمان سلميتها……………..
    1957: وقع شاه إيران محمد رضا بهلوي اتفاقية تعاون نووي مدني مع رئيس الولايات المتحدة الأميركية دوايت آيزنهاور ضمن برنامج “الذرة من أجل السلام” الأميركي، تم بموجبه نقل مقر معهد العلوم النووية التابع لمنظمة المعاهدة المركزية من بغداد إلى طهران.

    1958-1959: قدمت جامعة طهران أول طلب لشراء المعدات اللازمة للأنشطة التعليمية والبحثية النووية من الخارج، ثم أسست مركز طهران للبحوث النووية………..
    1967: وُضع حجر الأساس للعلوم والتقنيات النووية في إيران، بعد تشغيل مفاعل طهران البحثي بقدرة 5 ميغاواط، الذي اشترته إيران من الولايات المتحدة.

    1968: وقعت إيران على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في اليوم الأول لفتح التوقيعات، مقابل الحصول على مساعدات ضمن برنامج الذرة من أجل السلام.

    1972: وقعت إيران على اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية، وصادق عليها البرلمان الإيراني عام 1973.

    1974: أسس الشاه محمد رضا منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، وأعلن خططا لتوليد نحو 23 ألف ميغاواط من الطاقة في 20 عاما، تشمل إنشاء 23 محطة للطاقة النووية، ووقعت طهران اتفاقيات مع شركات ألمانية وفرنسية لبناء مفاعلات في بوشهر وبندر عباس.

    كما أبرمت إيران اتفاقية ضمانات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتيح لها التحقق بشكل مستقل من دقة بيانات طهران المتعلقة بموادها وأنشطتها النووية…………

  2. الحرب بين ايران واسرائيل طابعها دينى عقائدى فاليهود قال لهم الرب ( لنسلك اعطى هذه الارض من نهر الفرات الى نهر النيل العظيم ) او كما قال الرب فى التوراة . ويعتقد اليهود ان هناك سطوا تاريخيا على معتقداتهم وتاريخهم وابطالهم الخارقين وحقوق الملكية الفكرية لكتبهم ومقدساتهم كشعب اختارته العناية السماوية ورفعته اعلى الدرجات وفضلتهم على بقية البشر هذا السطو فعله بولس الرسول فى القرن الاول الميلادى واسماه تكملة الناموس لا نقضه .. وتكررت العملية لاحقا بعد عدة قرون وقد تحدث الدكتور طه حسين عن ذلك السطو بكل صراحة خاصة علاقة النبى ابراهيم بكعبة المسلمين والحديث فى هذا الصدد من المحظورات والممنوعات والخطوط الحمراء . ولا بد من الوصول الى الحقيقة وحقوق الملكية الفكرسة اولا لايجاد الحلول العسكرية والسياسية .

  3. نحتاج إلى مشروع علماني–ديمقراطي، غير مركزي، يعترف بالحقوق الإثنية والثقافية، ويربط المواطنة بالعدالة التاريخية ل

    تعليق : يا استاذ هناك دول علمانية كثيرة بجوارنا مثل ارتريا و مصر و دولة جنوب السودان الوليدة و هناك دول عمانية فيها شيء من الديموقراطية مثل اثيوبيا و لكن لا العلمانية و لا الديموقراطية منعت الفقر و الحروب الاهلية
    نحتاج الى دولة عدالة و قانون و أهم شيء الوعي

  4. يا حفيد مادبو اليوم تكتب بلغة المثقف الذي تشبع بحضارة وعلوم الغرب وامس تتحدث عن حميتي بلغة صعلوك العرب قبل الاسلام الذي يريد ان يعيد حقوق ليس معلومة لمجاهيل ليسو معلومين بطرق تجافي العقل والمنطق والقانون وعصر العلم الذي انت فيه وبه تزعم انك قد تشبعت مما يدل على ان علميتك توظيفية ان جاز التعبير اي انك تطبقها على البعيد وتطبق العاطفة المجافية للعلمية على القريب الخلاصة عصبية
    ((إننا أمام معركة طويلة ضد منظومات تمثّل نفسها لا شعوبها، وتتحدث باسم الغيب بينما تمارس الإقصاء باسم الحداثة أو الجهاد. )) هل كان حميتي الذي دافعت عنه يمثل الشعوب بل يمثل العصبية كل العصبية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..