مقالات سياسية

لأكثر من عامين: أسرة عطبراوية تستضيف أكثر من 60 شخصا بمنزلها

هانم الشيخ ومساعد مبيوع كانوا الأنموذج في الصبر والإيثار

الوسيلة حسن مصطفى

كثيرة هي القصص التي ربما سيحكيها الناس ويجترها الزمن والتي كانت نتاج حرب الخامس عشر من ابريل 2023، ولكن قصة (الخالة هانم) تلك المرأة العطبراوية الأصيلة سيخلدها التاريخ كونها اجتمعت فيها كل القيم والسماحة السودانية والإسلامية.

الحرب العبثية اللعينة التي اتسعت دائرتها لتشمل أكثر الولايات كثافة في السكان (الخرطوم، الجزيرة، سنار ، النيل الأبيض، كردفان ودارفور) دفعت بالقليل فقط من الفارين من أهوالها الى عبور الحدود مضطرين فيما كان معظم الفارين ممن عبروا الحدود نحو دول الجوار من اصحاب القدرة المالية الذين يبحثون عن حياة مستقرة أمنيا لأجل العلاج أو التعليم أو الرفاهية ومن حر أموالهم حيث اختاروا أفضل الأماكن للعيش هنالك.

الهجرة الداخلية من الولايات الأكثر كثافة في السكان إلى الولايات الأقل كثافة وأكثر فقرا وأقسى طقسا وتضاريسا (الولايات الشمالية) كان أحد أهم أسباب امتصاص الصدمة الكبيرة، حيث فتحت تلك الولايات للوافدين الساحات العامة و(الزوي) والمدارس والاسكانات الشعبية وبعض المخيمات القليلة الخجولة.

كانت العطبراوية هانم محمد الشيخ قد شكلت أنموذجا للإيثار والكرم، فتحت منزلها لأهلها وأهل زوجها وجيران الذين جاء بعضهم من الخرطوم ووآخرين من السوكي حتى بلغت الأسر المستقرة (الثابتة) ثمانية أسر احتضنهم منزلها الصغير المكون من ثلاث غرف وصالون مع الكثير من (العناقريب) تجسيدا للمثل السوداني ” كان النفوس اطايبت العنقريب يشيل مية”

هانم امرأة جاء بها زوجها الذي كان يخدم في هيئة سكك حديد السودان مساعد مبيوع واستقر بها المقام بعطبرة في ستينيات القرن الماضي وهي تنحدر من قبيلة الشايقية، مواليد منطقة الكرفاب شمال السودان. عاشت طفولتها بولاية الخرطوم ودرست حتى السنة الرابعة (كُتاب)، وبعد زواجها من موظف السكة حديد مساعد مبيوع تنقلت بين أحياء عطبرة من الداخلة الى الحصايا وأخيرا استقر بها المقام بحي المطار مربع 6 وهو المنزل مكان القصة.

المنزل 400 متر – الدرجة الثالثة، يحتوي على ثلاث غرف وصالون وأمام المنزل أشجار نيم وراكوبة وقفص دجاج

عطبرة، بحكم موقعها الوسطي ولأنها ملتقى للطرق والمركز التجاري البديل للخرطوم كان الإقبال عليها كبيرا من كل الولايات.

وما لم تصدقه، وما لم أصدقه أنا لولا تأكيد المهندس محمد رحمة الله ضابط اللجنة الإدارية بالحي، أن “المنزل اتسع فعلا لأكثر من 60 شخصا بصورة ثابتة” ممن جرى حصرهم ضمن كشوفات اللجنة الإدارية الخاصة بالوافدين لغرض توزيع بعض المساعدات التي تجود بها المنظمات من حين لآخر للفارين من مناطق الحرب.

وعطبرة قبل أن تصبح سوقا للمعدنين وتتأثر بالتحول والحراك الاجتماعي الكبير الذي كان نتاج ذلك التعدين، كان مستوى أهلها المعيشي يكاد يكون الأقرب لحصة التموين في التشابه، فما كانوا يتطاولون في البنيان وما كانوا يتنافسون اجتماعيا الا في التواصل والمحبة، غير أنهم لا يخفون اختلافهم في الفكر والسياسة ويتنافسون في الأدب والثقافة، فهي المدينة السودانية الوحيدة التي وُلد من (رحمها) حزب وفكرة تجمع بين الفلسفة والتصوف والتجديد، وهي الحركة الجمهورية، بينما كل الأحزاب الأخرى كانت اما مستوردة أو طائفية جوفاء صنعتها الصُدفة والظروف.

عامان وبضعة أشهر ولا حياة خاصة لهذه الأسر التي جمعها منزل هانم، عامان وأكثر والرجال يحتلون جزءاً من المنزل وللنساء جزء آخر، حيث خُصص الصالون والراكوبة والمساحة الأمامية للمنزل مع أشجار النيم للرجال نهارا وليلا.

كان بعض معارف هانم يشفقون عليها لحجم الضغط عليها وعلى منزلها الا انها كانت تؤكد لهم صمودها ونفسها الطيبة تجاه ما تفعل، وأطلق بعض أهل الحي على منزل الخالة هانم (النادي) لكثرة ما فيه من صخب الونسة والألفة والضحكات. فلا أحد في ذلك المنزل يمكنه أن (يكشر) في وجه الآخر لأي سبب، أو يُعكر صفو الآخرين بتقلبات مزاجه الخاص، فقد شكلوا جميعا كأهل وأسرة نموذجا في الانضباط والصبر.

كانت الحياة رغم الازدحام الشديد بالمنزل، مرتبة، والتآلف كبير بين الأُسر. حيث جرى تقسيم المهام المنزلية بإحكام مع التزام صارم ، قالت ذلك: ريان حسين مساعد والتي أضافت بأن “الكل يعرف ما عليه من التزامات ابتداءً من (لف) المرتبة في الصباح وتوزيع مهام تصنيع الوجبات وغسيل الأواني ونظافة المنزل وملء الثلاجة، ووصفت المنزل بالمحطة الرئيسية للأقارب وجيران الأقارب من الخرطوم الذين يضطرون للمرور بمدينة عطبرة حيث تتم استضافتهم بالمنزل حتى اكتمال اجراءات أو ترتيبات مغادرتهم، وقدرت عدد الأسر (غير المستقرة) والتي استضافها المنزل كمحطة منذ اندلاع الحرب بالستين أسرة.

وكانت النسيم محمد الشيخ شقيقة (الخالة هانم) كانت قد وصلت للتو من جمهورية مصر الشقيقة، حيث لم تخفي فرحتها بالعودة وبنجاح شقيقتها في هذا الامتحان الصعب، وعبرت عن فخرها واعتزازها بما فعلته هانم وتمنت أن تكون مثلها في الإيثار والصبر، فيما اعتبرت ليلى أحمد الشيخ بنت عم هانم أن هانم كانت علما رفع رأس الأسرة عاليا إبان أزمات الحرب مشيرة إلى انها استقلبت كل الأهل والمحتاجين بكل سماحة وطيبة مؤكدة أنهم لم يشهدوا خلال فترة الحرب منها غير الخير والاهتمام.

ولهانم اخوان بعضهم غادر السودان إلى مصر ولم يعد حتى الآن.

واعتبرت الخالة هانم أن الأمر برمته كان توفيق من الله، فهو الذي أعانها وجعلها تستطيع بكل رحابة صدر أن تستضيف بمنزلها بعض أهلها وأقاربها من أبناء عمومتها وبنات خالاتها وأبناء اخوان زوجها وبعض جيرانهم الذين يسكنون الخرطوم وبعض الولايات الأخرى. وكان لسانها يلهج بالحمد والشكر لله رب العالمين أن جعل بينهم الألفة والمحبة حتى اتسع لهم البيت جميعا دون أي نوع من الكلل أو الملل.

هذه القصة تحكي اسهام الخالة هانم في تخفيف آثار هذه الحرب على مجموعة كبيرة من الأهل والأقارب، فيما لا زال الكثير من الناس يعانون ويواجهون لوحدهم أهوالها وضغوطها النفسية والمعيشية ولا زال الكثير يتفرج وكأن الأمر لا يعنيه هذا إن لم يصب الزيت على النار وينفخ فيها ليزداد لهيبها شقاء على أمة محمد.

[email protected]

‫5 تعليقات

  1. مثل هذه القصص الملهمة تمنح الناس الأمل . في ذات الوقت تجعل التفكير محتارا , بسؤال مهم , لماذا يبدو السودانيون/ات بمختلف تعددياتهم ومناطقهم كافراد أخيار يبدون افضل مافي الإنسان من خصال وعندما يجتمعون ف الشأن العام يبدون أسوأ خلق الله لماذا القيم النبيلة حصرية على المستوى الخاص والقيم الرذيلة مبثوثة في الفضاء العام سؤال لا املك عنه اجابة بجد . فقط عصف ذهني .

  2. نعم الخالة انها اوابة خيرا” فعلت فلو لا طيب قلبها وحسن معشرها لما عاشوا جعيهم فى سلام وهذه القصة عبرة لكل ما خاذق اخيه او جاره ورفض استقباله بالحسنى والنعروف دائم لا ينقطع من الناس العظام فلك الشكر الجزيل ان سمحتى لكتابة هذه القصة بان يمتعنا بهذا السرد المرهف وتقبل الله منك وفى ميزان حسناتك

  3. اها رايكم شنو يا جنجويد يا مواهيم الخاله هانم دي شايقيه ميه المئه ومشلخه لوراء كمان؟؟!
    وانتو بتقولوا الشوايقه هم ابناء المستعمر وبقايا المصريين
    انشاء الله بعد القصه دي تكونوا غيرتو رايكم
    ومسؤلين من الخير
    هل تستطيع ام قرون أن تفعل ما فعلته الحاجه هانم !!!

  4. و هل يحتاج الشايقية لاعتراف من الجنجكوز بانهم قوم محترمين يا أيها الكيمو؟

    الجنجكوز لم يصنعوا و لم يزرعوا و جذورهم من إحدى مناطق في العالم لم تنشأ فيها اية حضارة الا تلك الممالك التي تكونت على أسس الإسلام الذي غذاهم بالارهاب و السلب و السبي .

  5. يا خالد فضل السودانيون في الفضاء العامة عندهم داء الكنكشة والانانية ، ولو لا قدرة الله وحكمته وخلق الموت لظل من في الفضاء العام حارسا لموقعه الى يوم يبعثون ، أما هذه المرأة الصالحة نقول تقبل الله عملها وجزاها خير الجزاء وكما نقول بالعامية لينا بحالها آمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..