في حضرة اللهب : الهيمنة تخلع قناعها النووي … والخليج يشتري الأمن من بائع القلق

إبراهيم برسي
ليست الحرب هتافات بين الجيوش، بل جملة اعتراضية في جغرافيا الكلمات، حيث تُنحر اللغة على أعتاب المصلحة، ويُعاد تشكيل الخرائط بمداد من دخان.
وفي المشهد الأخير، لم تعد السماء تُطرِف جفنها وهي تراقب القاذفات الأميركية تمطر الأرض الإيرانية بوابلها؛ كأننا أمام صمتٍ متّفقٍ عليه، أو لعله عزفٌ استهلالي لسيمفونية الموت المتدرج.
لقد وقعت الضربة. ضُربت “فوردو” و”نطنز” و”أصفهان”، ليس لأن العالم يخشى سلاحًا نوويًا بيد الجمهورية الإسلامية، بل لأن السلطة التي تحرس عقارب الوقت تريد تأديب الطموح حين لا يُقرن بالطاعة.
لم تُعلن الضربة من على منصة الأمم المتحدة، ولا في غرفة عمليات تفيض بالإجماع السياسي، بل جاءت كشعور عابر في سبابة مرتبكة من أصابع رئيس أميركي على شاشة هاتفه المحمول، حين دوّن تغريدة مقتضبة على منصة “ترو سوشال”، يزف فيها للعالم خبر القصف، كما يُعلن أحدهم عن فعالية ترويجية داخل متحفٍ للخراب.
أميركا، في تحالف غير معلن ومُعلن مع إسرائيل، شنّت عملية عسكرية وُصفت بالناجحة، وكأن العالم يُكافئ الضربة لا بمنعها، بل بتسميتها بعناية: “إزالة الخطر”.
لكن، ما هو هذا الخطر؟ وهل نحن إزاء “فعل دفاعي” كما يقول المروّجون، أم أمام تمرين استراتيجي على توطين ميزان الهيمنة في نقطة مفصلية من خريطة الشرق المتصدّع؟
هنا لا بد أن نقرأ المشهد بما يتجاوز الحطام: ما الذي يريده الغرب من إيران؟ ولماذا لا يتوقّف دعمه الأعمى لإسرائيل؟ وماذا عن دول الخليج؟ وهل تبقى هذه النار محصورة في موقدها؟
لعل أول ما يستوجب التوقّف عنده هو كيف تفهم إيران نفسها. فمنذ أن أُطيح بالشاه واستيقظت الجمهورية الإسلامية من نومها القومي، لم تعد إيران كيانًا سياسيًا فحسب، بل سردية ممتدة بين المظلومية والتهديد.
في خطابها الرسمي، هي الوريث المتصل لثأر كربلاء، والمحرّك العقائدي لما تسميه مواجهة “الاستكبار”. لكن هذا الخطاب، مهما اختلفنا معه، لم يكن مجرّد وهم، بل كان طريقة للردّ على تاريخ طويل من التدخلات الأجنبية: من الانقلاب على مصدّق، إلى الحصار المتكرّر، إلى تجريم الهواء إن مرّ عبر طهران.
في ضوء هذا الفهم، فإنّ الضربة الأميركية لم تستهدف مفاعلًا فحسب، بل استهدفت البنية النفسية لنظامٍ يرى في الصبر فضيلة عسكرية، وفي الردّ تأكيدًا للوجود. لذلك، فإنّ الردّ الإيراني ليس احتمالًا، بل جزء من البرمجة الأيديولوجية العميقة لنظام يُخاطب شعبه بلغة العنف المقدّس، ويحتفظ بوكلاء له في العراق ولبنان واليمن وسوريا، قادرين على إشعال المنطقة إن أراد.
من هنا يصبح السؤال الأهم: كيف سيكون الرد؟ وما الذي تملكه إيران الآن، وهي تقف في مهبّ الاستفزاز؟
ما يجري الآن هو صراع بين زمنين: زمن الرغبة الغربية في ترسيخ شرق أوسط يُشبه التوقّعات، وزمن الشرق نفسه وهو يُقاوم تمثّلاته المفروضة.
إيران ستردّ، وقد بدأت تفعل. لكنّ الردّ لن يكون بحجم الضربة فقط، بل بحجم التراكم: سنوات من العقوبات، من العزلة، من وصم كل خطوة إيرانية بأنها تهديد للسلام العالمي، وكأنّ إسرائيل التي تملك ترسانة نووية غير معلنة هي كائن سلاميّ يُوزّع الطمأنينة بين الأمم.
ويبدو أن الردّ قد يتجلّى في هجمات سيبرانية، أو إطلاق للوكلاء، أو استهداف لحلفاء واشنطن في الخليج. لكنه، وإن بدا عنيفًا، سيظل محسوبًا: فإيران تعرف أنّ الحرب الشاملة قد تُفكّكها من الداخل، لكنها تعرف أيضًا أن الصمت الكامل هو إعلان استسلام أمام الجماهير، وهو ما لا تحتمله سرديتها الوجودية.
ومن الرد إلى الارتباك، تبرز دول الخليج بوصفها العالقة في المنتصف: تريد الأمن، لكنها لا تتحكّم في أدواته. تدفع مليارات لشراء الطمأنينة، ثم تستيقظ لتجد أن الضربات نُفّذت من فوق سمائها. تدين القصف، ثم تستقبل المبعوث الأميركي لتجديد العقود الأمنية.
وإذا أمعنا النظر، نجد أن هذه الدول، في لحظات كهذه، تُدرك هشاشتها: فمضيق هرمز أقرب للاشتعال من طمأنينة التصريحات. وحقول النفط تُدار تحت ظلّ الصواريخ أكثر من إشراف المهندسين. ومع ذلك، فهي تُراهن على لعب دور الوسيط، رغم أن الجميع يعرف أن الوساطة هنا لا تُولد من النوايا، بل من موازين الردع.
ولكي نقرأ الفعل الإيراني خارج التقارير الإخبارية، ينبغي تفكيك الشخصية السياسية التي تحكم إيران لا كأجهزة، بل كوعي. لفهم إيران، يجب أن نفكّك صورتها كعدو. إنها ليست دولة عادية، بل تركيبة من تاريخ طويل: حضارة قورِنت بروما، عرشٌ تحوّل إلى ثورة، وبرلمان تحوّل إلى حرس ثوري. في وجدانها العام، ثمة تواطؤ روحي مع فكرة “الطريق الصعب”، وحنين غامض لبطولة الخسارة إذا كانت ممهورة بالمعنى.
الشخصية الإيرانية، سواء اختلفنا أو اتفقنا معها، هي شخصية تقاوم الانصهار. حتى حين تمارس القمع، فإنها تفعله بإحساس أن العالم كله يريد إخضاعها. وهذا ما يجعلها خطرة: لأنها لا ترى في الانكسار حلاً، بل نداءً للانتقام أو التجدد.
ومن إيران إلى داعمي الضربة، يعود السؤال المُلحّ: لماذا لا يتراجع الغرب عن دعم إسرائيل، ولو مرة؟ أما عن سؤال لماذا يدعم الغرب إسرائيل دومًا، فالإجابة تتجاوز السياسة إلى ما يشبه اللاهوت السياسي.
إسرائيل في المخيال الغربي ليست مجرد حليف، بل تذكير تاريخي بوعدٍ لم يُنسَ. تُمثّل للإمبراطوريات الغربية تجربة إنقاذية: اليهودي الذي اضطهدوه بات الآن شريكهم في إعادة تشكيل الشرق.
لكن الحقيقة أن الغرب لا يدعم إسرائيل لأنه يحبها، بل لأنه بحاجة إليها: بوصفها قاعدة متقدمة لمصالحه، كساترٍ رمزي يغسل خطايا القرن العشرين، وكمختبر مفتوح لاختبار تقنيات السيطرة والردع.
وفي النهاية، لا بد من الاعتراف: ليس ما يجري الآن حربًا، بل غيابٌ شامل للخيال السياسي.
كل طرف يعيد إنتاج نفسه في لغة العنف لأنه لم يعد يثق في اللغة.
إيران تخشى أن يتحوّل الصمت إلى إعلان نسيان، وأميركا تخشى أن تُسقط هيبتها إن تراجعت، وإسرائيل تريد أن تقول: “نحن باقون بقوة النار، لا الحجة”.
في هذه الزاوية المعتمة، تبدو الشعوب هي الوحيدة التي لا يُسأل رأيها، رغم أن الجحيم يتساقط على بيوتها. أما الخليج، فسيظل يشتري الأمن من بائع القلق نفسه.
وهكذا، لا تنفع التمنيات. الحرب لا تبدأ حين تُطلق القذيفة الأولى، بل حين يصمت العقل الجمعي ويُستبدل بالتصفيق.
الضربات قد تتوالى، وقد تتوقّف، لكن الجرح الذي فُتح بين إيران والغرب سيظل نازفًا، لأنه لم يكن أمنيًا فقط، بل وجوديًا.
هل من أمل؟ ربما. إن كانت هناك قدرة على صناعة خيال جديد لا يُصاغ من نبوءات الصواريخ، بل من شجاعة الاعتراف أن لا أحد يربح في حربٍ تُخاض فوق جثث الأبرياء.
لكن، من يصغي الآن، والنار تكتب البيان؟
(ويحتفظ بوكلاء له في العراق ولبنان واليمن وسوريا، قادرين على إشعال المنطقة إن أراد.) هذا ما اقتبسته من مقالك هنا يظهر الفرق اسرائيل تدعم الدول والحكومات ذات المصداقية والتي تريد سلامة شعبها واستفراره خلاف ايران التي تدعم وكلاء لها وتعمل علي انشاء مليشيات تدخل شعبها في حرب استنزاف طويلة وتصنع بطولات خرافية وهمية وفي نهاية المطاف النتيجة فشل ذريع لهذه الانظمة المتخلفة الاستبدادية
كامل التقدير يا استاذ ابراهيم بريسي …
اذا ابتعدنا قليلاً عن الحديث عن “حضرة اللهب ” و “عزفٌ استهلالي لسيمفونية الموت المتدرج” و الساترٍ الرمزي الذي يغسل خطايا القرن … ونظرنا الي الحقائق العينية والواقع الملموس فسوف نجد الآتي …
وبكل بساطة الوقائع والحقائق تقول:
بعد حوالي عام ونصف من هجمة حماس في اكتوبر 2023 … وبدون اي تأخير او مماطلة وتلكأ قامت السلطة الفعلية الحاكمة في اسرائيل وهي المؤسسة العسكرية والامنية بالآتي:
– تدمير البنية التحتية المادية والبشرية لايران وحرق مفاعلاتها وتصفية خيرة علماءها في مجال الفيزياء النووية .. ولايزال التدمير والتصفيات مستمرة حتي يونيو 2025
– تدمير حزب الله وتصفية قادته في اواخر سبتمبر 2024
– تدمير نظام الاسد في سوريا اوائل ديسمبر 2024
– اجتياح تم تدمير غزة بالكامل وتصفية قادة حماس العسكرين والسياسين وتصفية هنية في اغسطس 2024
فهل نحتاج الي اي ادلة اخري تثبت لنا ان لاسرائيل المؤسسة العسكرية -وليس الحكومات والسياسين- لهذه المؤسسة ذاكرة حديدة ويد عليا طويلة ..
اظن بعد مرور الوقت قليلون هم من يتذكرون ركعة الاحتفال والشكر لاسماعيل هنية في مكتبه في طهران عندما بدإت هجمة عملية طوفان الاقصي !!
في ذات اللحظة التي كانت الجزيرة مباشر تبث الخبر في تغطية حية لانطلاق العملية …
هذا مقطع لتلك اللفتة الاحتفالية صباح 7 اكتوبر2023 :
https://x.com/i/status/1936624274347102456
فإين هم اليوم هنية ومن معه من المشايخ في تلك السجدة المحضورة المصورة ..
وما الذي حاق بطهران -ذلك الملاذ الآمن كما ظنت حماس- …
واين هم ملالي ايران وموقعهم في معادلات النفوذ والسطوة الاقليمية اليوم !!؟؟
ومن سوء طويتة افعاليهم لم ينجو حتي سودان الافارقة الفقراء فدربوا الدواعش وحشدوا وزودهم بالمسيرات !!
وقد قلمت انيابهم وبترت زعانفهم في لبنان والعراق واليمن وسوريا !!
انها عبرة وآية وعظة لمن يفكر ويتدبر ويحسب العواقب قبل ان يغامر ويتهور !!