دولة والجيش في السودان : من الفوضى الي التأسيس الجديد (1)

نبيل منصور
منذ فجر الاستقلال، ظل الجيش السوداني يحتل موقعاً مركزياً في معادلة السلطة لا بوصفه حارسا للدستور، بل لاعباً مباشراً في إعادة تشكيل الدولة على صورته.
وعلى مدار أكثر من ستة عقود، لم يكن الجيش جهازا منضبطا خاضعا للمدنيين، بل كان هو الدولة في كثير من الأحيان، أو بوابة تفككها الدائم.
في ظل الحرب الجارية، تبرز الأسئلة القديمة في سياق أكثر إلحاحا:
هل يمكن بناء دولة مدنية بقوة مسلحة ظلت عدوانية تجاه المجتمع والديمقراطية؟
كيف نعيد تأسيس جيش جديد يكون أداة للاستقرار لا الانقلاب؟
وهل يمكن التوفيق بين المطالب الأخلاقية بالعدالة، والضرورات الواقعية للأمن والدفاع؟
هذه السلسلة ليست استعراضاً للتاريخ فحسب، بل محاولة لطرح بدائل عملية وفكرية، تعيد تعريف وظيفة الجيش وموقعه في الدولة، ضمن مشروع سياسي جديد يستند إلى مدنية السلطة، وعدالة الانتقال، وتوازن القوى داخل المجتمع .
وسأبدأ بالجزء الأهم في هذه السلسلة وهو:
(1) التوفيق بين رفض المجرمين وضرورة وجود قوة مسلحة لإعادة بناء الدولة
ففي لحظة الانهيار الكلي التي يعيشها السودان، تطرح الأزمة سؤالاً مركزيا بالغ الحساسية: كيف نعيد بناء الدولة دون مهادنة من دمّرها؟
كيف نؤسس لمرحلة انتقالية ذات شرعية أخلاقية، بينما ما تزال مفاصل القوة المسلحة بما فيها الجيش والدعم السريع ممسوكة بأيدٍ ملطخة بالدماء، وبعقائد عدائية لمفهوم الدولة المدنية نفسها؟
هل يعني التمسك بمبدأ “لا مهادنة مع المجرمين” أن نُفرّط في آخر ما تبقى من بنية الدولة؟
وهل يعني القبول بوجود جيش أو قوة مسلحة في المرحلة القادمة أن نُغض الطرف عن الجرائم ونقايض العدالة بالأمن؟
السؤال لا يمكن حله بشعار ولا بموقف انفعالي، بل يتطلب تفكيكاً فكرياً صريحاً لمعادلة مركّبة وهي كيف نوازن بين المبدأ والضرورة دون السقوط في براثن الانتهازية أو الفوضى؟
أولا:
تحديد المفاهيم قبل الوقوع في المزايدات :
من الخطأ إختزال النقاش في ثنائية سطحية ب إما أن نرفض المجرمين ونفكك الجيش، أو نقبل بالعسكر ونبتلع الانتهاكات.
الحقيقة أعقد من ذلك، وتبدأ بتفكيك المصطلحات الآتية:
(رفض المجرمين):
لا يعني معاداة الجيش كمؤسسة، بل يعني رفض الإفلات من العقاب، خاصة للقيادات التي أصدرت أو نفذت أو تسترت على الجرائم ضد الإنسانية وجرائم النهب والفساد.
(وجود قوة مسلحة):
لا يعني القبول بسيطرة العسكر على الحكم، بل يعني الحفاظ على جهاز أمني خاضع للسلطة المدنية، يخضع لإصلاح جذري وهيكلة صارمة، كي لا تتحول الدولة إلى ملعب للمليشيات أو فوضى شاملة.
ثانيا:
الرؤية السياسية من شعار إلى مشروع:
سياسيا، أي مشروع مدني ديمقراطي بعد الحرب يحتاج إلى قوة تحفظ النظام وتحمي الانتقال.
لكن هذه القوة يجب أن تتوفر فيها شروط جوهرية:
1. هيكلة شاملة للمؤسسة العسكرية، تبدأ بإقالة ومحاكمة القيادات المتورطة، وتنتهي بإعادة تعريف العقيدة القتالية لتكون ولاؤها للدستور لا للأشخاص أو التنظيمات.
2. دمج وتسريح المليشيات بآلية مهنية وعادلة، تُراعي العدالة، ولا تعيد تدوير الفوضى باسم “السلام”.
3. ضمان الإشراف المدني الكامل على المؤسسة العسكرية، دستورياً وبرلمانياً، مع رقابة إعلامية وشعبية.
بغير هذه الشروط، فإن أي بقاء للقوة المسلحة بصيغتها الحالية هو تمديدٌ للأزمة، وإن بثوب جديد.
ثالثا:
البعد الاجتماعي، هل المجتمع مستعد لرفض القمع؟ :
في مجتمع أنهكته الحروب والترويع والإفقار والتضليل الإعلامي، من السهل أن تنشأ حالة “حنين للاستقرار” حتى لو أتى على يد قاتل. وهنا مكمن الخطر. اذ لابد من مشروع اجتماعي موازٍ، يُعيد بناء الوعي الشعبي حول :
• الفرق بين الاستقرار القائم على العدل، والاستقرار القائم على الرعب.
• ضرورة العدالة الانتقالية كشرط للمصالحة الحقيقية، لا كترف سياسي.
• خطورة إعادة تدوير الجيش أو الدعم السريع كـ”منقذين”، بينما هم جزء أساسي من المأساة.
بمعنى أوضح: لا يمكن أن نطالب بتأسيس دولة جديدة على قاعدتها الاجتماعية القديمة المأخوذة بالرعب أو التضليل أو اللامبالاة.
رابعا:
البعد الأخلاقي، لا عدالة بدون مواجهة الحقيقة :
رفض المجرمين ليس ترفاً أخلاقياً، بل هو أساس استقرار طويل الأمد. فالتاريخ علمنا أن هناك مجتمعات ساومت على العدالة من أجل “الاستقرار” دفعت الثمن لاحقا ومضاعفاً إما بإنهيارات متجددة، أو بعنف أهلي، أو بثورات فاشلة تُستثمر من ذات المجرمين باسم “الحفاظ على الدولة”.
ومثال علي ذلك :
1. تشيلي بعد انقلاب بينوشيه (1973):
بعد انقلاب الجنرال أوغستو بينوشيه ضد الرئيس المنتخب سلفادور أليندي، اختار المجتمع الدولي وقطاعات من النخبة التشيلية “السكوت” على الانتهاكات بحجة حماية الاقتصاد والاستقرار.
لكن الانتهاكات طالت الآلاف (إعدامات، تعذيب، اختفاءات قسرية).
لم تبدأ تشيلي مسار العدالة الانتقالية إلا بعد 20 عاما، وما زالت الجراح مفتوحة رغم “التحول الديمقراطي”.
2. الجزائر بعد العشرية السوداء (1990-2000):
بعد مجازر الحرب الأهلية، تم “العفو العام” في إطار سياسة المصالحة الوطنية التي أطلقها بوتفليقة.
كثير من الجناة، بمن فيهم قادة ميليشيات و”عناصر داخل الدولة”، لم يُحاسَبوا.
النتيجة: بقيت منظومة العسكر تهيمن، وتُقمع الاحتجاجات السلمية لاحقا (مثل حراك 2019م) باسم “الحفاظ على الاستقرار”.
3. جنوب أفريقيا – رغم نجاحاتها:
رغم النموذج الشهير لـ”لجنة الحقيقة والمصالحة”، لم تُحاسب الدولة فعليًا رموز نظام الفصل العنصري.
هذا التساهل خلق طبقة بيضاء احتكرت الاقتصاد بعد الديمقراطية، وأدى إلى توترات طبقية وعنصرية متجددة.
4. العراق بعد 2003:
تم حل الجيش والبعث، لكن دون عدالة أو عدالة انتقالية حقيقية. فعادت القوى القديمة بثوب طائفي، وظهر “الاستقرار المزيف” الذي انفجر لاحقًا في شكل ميليشيات، وداعش، وحرب أهلية.
السبب: لم تتم مواجهة الجرائم ولا إعادة بناء الدولة على أسس عادلة.
5. السودان نفسه بعد المصالحة مع نميري (1977):
حين عاد الإسلاميون للسلطة باتفاق مصالحة مع نميري، لم تُفتح ملفات الجرائم، بل عادوا أقوى. وفي النهاية كانوا هم من دعموا انقلابه الإسلامي في 1989، ودخل السودان أطول مراحل استبداده.
المطلوب هو التأسيس لمرحلة سياسية يكون فيها:
• وضوح في توصيف الجرائم.
• آليات عملية للمحاسبة والإنصاف.
• وفهم عميق بأن التطبيع مع الإفلات من العقاب هو هدم بطيء لأي دولة نريد بناءها.
خامسا:
كيف نحقق التوازن عمليا؟ :
الجواب يكمن في معادلة ثلاثية:
1. رفض أخلاقي واضح لجرائم الجيش والدعم السريع وغيرها، بدون لبس أو مواربة.
2. قبول مشروط بوجود قوة مسلحة وطنية، بعد إعادة هيكلتها وإخضاعها لسلطة مدنية كاملة.
3. بناء حركة مدنية وفكرية واجتماعية تشتغل على الوعي الشعبي، وتخلق رأيا عاما رافضا للتسويات الفوقية، وداعما لعدالة غير قابلة للمساومة.
خلاصة :
لا دولة بدون قوة تحفظ أمنها،
ولا مستقبل بدون عدالة تحاسب من دمّر حاضرها.
بين هذين الحدين، هناك طريق ثالث وهو قوة بلا طغيان، وعدالة بلا انتقام، ومشروع وطني لا يساير القتلة، ولا يُغامر بالفوضى.
وهذا الطريق ليس سهلاً، لكنه الطريق الوحيد الذي لا يبتلع الثورة ولا يُعيد إنتاج الجريمة بثوب الدولة.
أو لم تسمع كباشي و هو يتبجح “دايرين بلد نحكموا بفهمنا أو مافي بلد”
أو ما يفيد هذا المعني