مقالات وآراء سياسية

الدولة والجيش في السودان : من الفوضى الي التأسيس الجديد (3)

نبيل منصور

 

(ج) الانضباط العسكري في دولة مدنية: نحو جيش بلا أوامر سياسية

 

هذا هو المقال الثالث من سلسلة مقالات “الدولة والجيش في السودان: من الفوضى إلى التأسيس الجديد”، والتي نحاول من خلالها تفكيك البنية الذهنية والمؤسسية التي جعلت من الجيش السوداني فاعلا سياسيا أكثر من كونه حارسا للدولة.

فبعد أن استعرضنا في المقالين السابقين:

التوفيق بين رفض المجرمين وضرورة وجود قوة مسلحة لإعادة بناء الدولة، وطرحنا نموذجاً بديلاً لبنية الجيش يقوم على التمكين المدني والاحتياطي لا على المشاة الدائمين، ننتقل في هذا المقال إلى سؤال شديد الحساسية:

 

ما معنى “الانضباط العسكري” في دولة مدنية؟

 

هل هو طاعة مطلقة ؟ أم التزام دستوري ؟

 

كيف أصبح مفهوم الانضباط غطاءً أيديولوجياً لكل الانقلابات ؟

 

وكيف يمكن إعادة تعريفه ليكون أداة بناء لا وسيلة للهدم والاستبداد ؟

 

هذا المقال لا يكتفي بالتشخيص، بل يطرح مداخل عملية لتأسيس انضباط جديد، ينقل المؤسسة العسكرية من التبعية السياسية إلى الحياد الدستوري، ويُحوّل الجندي من منفذ للأوامر إلى حامٍ للشرعية.

 

(ج) الانضباط العسكري في دولة مدنية: نحو جيش بلا أوامر سياسية

 

في السودان، لطالما كان الجيش مؤسسة غير مستقلة، تتداخل فيها السياسة بالقيادة العسكرية، فتُستغل القوات المسلحة لتحقيق أجندات حزبية وشخصية، وتُستخدم كأداة للانقلاب والتحكم في الدولة. هذا الواقع أفقد الجيش دوره الحقيقي كحارس للسيادة الوطنية، وجعله طرفا في الفوضى والصراع الداخلي منذ ما يقرب من ٦٨ سنة.

 

مدخل تأسيسي:

 

الانضباط الذي أطاح بالدولة:

 

كثيرا ما يُحمّل الناس مسؤولية الخراب لما يُسمّى بـ”دولة 56″، وأكثر من روّج لهذا التعبير هم قوات حميدتي، بل أصبح مشروعا برّروا به ما ارتكبوه من جرائم وانتهاكات في حق الوطن والمواطن، وكأن المشكلة بدأت مع أول تجربة مدنية بعد الاستقلال. لكن هذا تشويه تاريخي خطير، فدولة 56 لم تأخذ فرصتها أصلًا. ولم تُسقطها فوضى شعبية ولا فشل ديمقراطي، بل أسقطها أول انقلاب عسكري في 1958م، أي بعد عامين فقط من الاستقلال، عندما قرر الجيش – باسم “الانضباط” – أن ينقلب على سلطة منتخبة، ويفتح بوابة الجحيم.

فلو قُدِّر لتلك الديمقراطية أن تستمر، لتطورت كأي تجربة في العالم؛ فالديمقراطيات الوليدة عادةً ما تتعثر، لكنها تنمو وتتشذب بالتراكم. أما الذي سُنَّ في 1958م فليس دولة، بل تقليد جديد جعل للجيش الحق في الحكم باسم النظام والانضباط، وأن السياسة “فوضى مدنية” لا يصح أن تُترك للمواطنين.

وهكذا، تأسس الانقلاب لا كمجرد حادثة، بل كعقيدة في فهم الدولة والانضباط معا.

ومن هنا تبدأ المأساة… وتبدأ الحاجة إلى تفكيك هذا الفهم المسموم لماهية “الانضباط العسكري” نفسه. فالدولة التي يجب حقيقة أن يتخلص منها الناس هي التي تأسست في 58 وليس 56 .

 

أولا:

مفهوم الانضباط العسكري في الدولة المدنية :

الانضباط العسكري لا يعني الطاعة العمياء لأوامر أي قائد، مهما كان منصبه، بل الطاعة لسلطة مدنية شرعية تلتزم بقواعد القانون والدستور.

الجيش في الدولة المدنية هو جهاز مهني يدافع عن الدستور ويحترم حقوق الإنسان، ولا يتدخل في السياسة الحزبية أو يتبع أوامر شخصية تخالف القانون.

 

الانضباط بين الطاعة والضمير:

في الدولة المدنية، الانضباط لا يُقاس بمدى تنفيذ الأوامر فقط، بل بمدى وعي العسكري بمسؤوليته الدستورية. الجندي المنضبط يطيع القائد في المسائل العسكرية وليس التي تتعلق بالسياسة ، هو من يطيع القانون العسكري المنحدر من الدستور.

هذه النقلة الفكرية ضرورية لتجاوز عقلية “تنفيذ الأوامر ثم التنصل من الجريمة”، وتحويل الانضباط من أداة طاعة إلى مبدأ مسؤولية.

 

ثانيا:

لماذا الانضباط العسكري بلا أوامر سياسية مهم؟

 

1. حماية الدولة والمؤسسات

عندما يطيع الجيش أوامر مدنية دستورية فقط، يضمن استقرار الدولة وعدم انزلاقها إلى انقلابات أو فوضى.

2. ضمان حقوق الإنسان والمواطنة

الجيش المنضبط يحترم الحريات المدنية ويمنع القمع أو التدخل غير القانوني في الشؤون المدنية.

3. تحقيق المهنية والاحتراف

تركيز الجيش على مهامه العسكرية بعيدًا عن السياسة يرفع من كفاءة القوات ويجعلها أكثر استعدادًا للدفاع.

 

تفكيك الانضباط كأداة أيديولوجية :

لقد تحوّل مفهوم الانضباط في العقل العسكري السوداني إلى ما يشبه الطاعة العمياء، لا للشرعية، بل للتراتبية داخل القيادة، بصرف النظر عن مشروعية أوامرها.

وهذا ما جعله سلاحا أيديولوجيا بيد الانقلابيين، يستخدمونه لتكميم أفواه الرافضين داخل المؤسسة، ولتبرير التورط في جرائم ضد الشعوب باسم الطاعة.

ولذلك، ما إن ينجح الانقلاب، حتى تُحال مباشرةً إلى التقاعد أو التهميش كل الشخصيات العسكرية التي يُحتمل أن تعارض المشروع الانقلابي، أو تُمثّل خطرا عليه مستقبلاً. اول واكثر مؤسسة يطالها التخريب هي المؤسسة العسكرية ونظام الكيزان خير دليل علي ذلك .

هكذا يزرع الانقلاب “الصدمة الانضباطية الأولى”، فيُعاد تعريف الانضباط كعلاقة طاعة بين القيادة الانقلابية وبقية الجسم العسكري، لا كالتزام بالدستور.

 

ثالثا:

التحديات في تطبيق الانضباط العسكري في السودان:

• وجود قيادات عسكرية تحمل أجندات سياسية شخصية أو حزبية.

• ضعف المؤسسات المدنية التي يجب أن تمارس الرقابة على الجيش.

• ثقافة تاريخية سمحت بتداخل الجيش في السلطة التنفيذية.

• المليشيات المسلحة التي تعمل خارج إطار الدولة.

• باختصار ، انشغال الجيش بمسائل لا علاقة لها بدوره المنصوص عليه في الدستور .

 

رابعا:

كيف نبني جيشا منضبطا بلا أوامر سياسية ؟

1. فصل واضح بين السلطات المدنية والعسكرية

تطبيق مبدأ سيادة القانون، حيث تكون القرارات العسكرية خاضعة لرقابة برلمانية ومدنية.

2. تدريب مهني قائم على القيم المدنية

إعادة صياغة المناهج التدريبية لتشمل احترام حقوق الإنسان، الحياد السياسي، والولاء للدستور.

3. محاسبة صارمة للقيادات المتورطة في السياسة

محاكمات شفافة للمتجاوزين، وإقالة القيادات التي تنخرط في السياسة.

4. إشراك المجتمع المدني والإعلام في الرقابة

تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام في مراقبة أداء الجيش.

5. الاستثمار في التطوير التكنولوجي والفني

توجيه موارد الجيش نحو مهام دفاعية تقنية تقلل من فرص الانخراط في السياسة.

 

خامسا:

نموذج عملي محتمل :

• وضع قانون واضح يحدد صلاحيات الجيش وحدوده في الشؤون السياسية.

• إنشاء لجنة مستقلة لمراقبة الجيش تضم ممثلين عن البرلمان، القضاء، والمجتمع المدني.

• إدخال برامج توعية في صفوف العسكريين تركز على القيم المدنية والديمقراطية.

 

خاتمة :

الانضباط العسكري بلا أوامر سياسية هو حجر الأساس لدولة مدنية حقيقية في السودان.

تحقيق ذلك يتطلب إصلاحات عميقة وشجاعة، لكنها الطريق الوحيد للخروج من دوامة الانقلابات والفوضى، ولتأسيس جيش يحمي الوطن لا يهدده.

 

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..