مقالات سياسية

السودان- من أوهام «القيمة المتخيلة» إلى شروط الفعل السياسي الجاد

زهير عثمان حمد

«إن احترام العالم لا يُستجدى بخطابات عن القيمة التاريخية والجغرافية، بل يُنتزع بالفعل السياسي الناضج.»

حين ننظر إلى الخطاب العام السوداني، خاصة في أوساط النخب المدنية والمثقفة، نجد سمة متكررة- تمجيد الموقع الجغرافي والرصيد الثقافي و”القيمة المعنوية” المزعومة للسودان، وكأنها رأسمال يكفي وحده لشراء مكانة دولية أو ضمان دعم خارجي.

يبرز هذا الميل في مقالات مثل مقال الدكتور بكري الجاك الذي يذكّر بأننا «صُرة القارة وحبلها السري»، وأننا «شعب لا يشعر بالغربة في شرقها أو شمالها»، مستندًا إلى تنوعنا الثقافي والاجتماعي. هذه المقاربة، رغم صدق جانبها الإنساني، تنطوي على اختزالٍ خطير: تفادي مواجهة الأسباب المادية – والسياسية – لانهيارنا، وتعليق خلاصنا على “قيمة” غير مفصلة أو مشروطة بأي قدرة حقيقية.

في المقابل، فإن توصيف السودان اليوم في أدبيات العلوم السياسية لا يسمح بهذا التجميل. وفق مؤشرات الدولة الرخوة (Weak State) والفاشلة (Failed State) – كما حللها فقهاء مثل غيليرمو أودونيل (O’Donnell) وفرانسيس فوكوياما – فإن الدولة التي تفقد القدرة على احتكار العنف الشرعي وتقديم الخدمات العامة وتسيير البيروقراطية بفعالية لا تكتسب أي احترام دولي لمجرد موقعها الجغرافي. إن هيبة الدولة تقاس بمؤسساتها وسلوكها السياسي لا بخطابات مواطنيها عن هويتها.

أكثر من ذلك، يرى المفكر الصومالي عبد الرحمن عبد الله في تحليلاته (Somalia: State Collapse, Multilateral Negotiations, and the Construction of Conflict) أن مجرد موقع استراتيجي قد يصبح عبئًا إن لم تتمكن الدولة من تنظيمه داخليًا: الصومال مثلًا يربط الخليج بالمحيط الهندي، لكنه صار رمزًا لانهيار الدولة لأن القوى الداخلية المتصارعة فشلت في التوافق السياسي.

هذا الدرس ينطبق تمامًا على السودان اليوم. موقعه الذي يربط شمال القارة بجنوبها وشرقها بغربها لا يمنحه ميزة إذا كان هذا الربط يحدث بالسلاح والتهريب واللاجئين. الثروات المعدنية والزراعية لا تبني قيمة ما لم تُحوّل عبر مؤسسات قادرة إلى رفاه وعدالة اجتماعية.

هنا يكمن جوهر النقد. أي خطاب يعوّل على «قيمتنا في نظر العالم» دون تحديد شروط هذه القيمة، هو في النهاية خطاب يتهرب من الأسئلة الجوهرية:

كيف نوقف هذه الحرب الأهلية؟

كيف نعيد بناء مؤسسة عسكرية واحدة خاضعة للسلطة المدنية؟

كيف نؤسس عقدًا اجتماعيًا جديدًا يضمن المساواة في المواطنة ويوزع السلطة والثروة بعدل؟

كيف نبني جهاز دولة يقدم الخدمات ويكافح الفساد ويضمن سيادة القانون؟

هذه ليست أسئلة تجميلية بل شرطية: بدون إجابة عملية عليها، لا قيمة لكل حديث عن “الوطن الحبل السري لإفريقيا” أو “الثقافة الجامعة”.

بل أكثر من ذلك، إن التعلق بفكرة أن العالم مطالب بإنقاذنا لأنها “مسؤوليته” هو في ذاته تعبير عن إنكار سياسي. في الأدبيات الواقعية في العلاقات الدولية (Realism)، لا يوجد تضامن مجاني. الدول تتدخل لحماية مصالحها. ومن يطلب الاحترام والدعم عليه أولًا أن يثبت قدرته على ضمان حد أدنى من الاستقرار والقدرة على التعاون.

انظر إلى الحالة الرواندية مثلًا: بعد الإبادة الجماعية، لم يُمنح الدعم الدولي الكبير إلا عندما ظهر نظام قادر على فرض الأمن الداخلي وضبط الحدود ومنع الانفجار الأهلي مجددًا. الاحترام الدولي في إفريقيا لم يُنتزع بالخطابات الأخلاقية بل بالفعل السياسي المنظم.

أما في السودان، فإن من يحرق البلد ليس فقط “قلة من الحمقى” كما قد يوحي الخطاب التبسيطي، بل تحالف معقد من النخب الاقتصادية والعسكرية والدينية التي تقتات على اقتصاد الحرب. لا يمكن لأي مشروع دولة حديثة أن يقوم دون تفكيك هذا التحالف وتسمية هذه المصالح باسمها.

الرهان لا يجب أن يكون على “القيمة المتخيلة” بل على الفعل الواقعي. وهذا الفعل له أركان واضحة:

بناء تحالف اجتماعي جديد يتجاوز الانتماءات القبلية الضيقة، ويعيد تعريف الوطنية كمصلحة مشتركة في البقاء والعدالة.
تمكين القوى المجتمعية الفاعلة (لجان المقاومة، النقابات، النساء، الشباب) بعيدًا عن النخب التقليدية المتواطئة.
صياغة مشروع سياسي يركز أولًا على إيقاف الحرب، ونزع سلاح المليشيات، وبناء جيش وطني مهني.
الشروع في حوار صريح حول العدالة الانتقالية وقسمة الثروة والسلطة، بما يكسر الحلقة التاريخية للتهميش والتهميش المضاد.

الاعتراف بقيمة السودان يبدأ من الداخل، من إصلاح علاقته بنفسه. الاحترام الدولي لا يُشترى بخطاب ثقافي جميل بل يُنتزع عبر بناء مؤسسات سياسية واقتصادية قادرة.

وإلا فإن السودان سيظل – كما وصفه أحد الدبلوماسيين الأفارقة في جلسة مغلقة – «مشكلة يفضل الجميع إبعادها عن الطاولة»، حتى لو كنا نعتقد نحن أننا الجسر، أو القلب، أو الحبل السري.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..