قصة قصيرة:موت مروحة

محمد عبدالرحمن محمود
كالعادة الغرفة موحشة .. الكتب مصفوفة بشكل عشوائي لا يساعد على البحث عن أي كتاب .. لم أتعمد ذلك .. ولكن عندما يصيبني ملل .. أو أصل لنهاية سرد ما، أفصل بين سرد جديد أو بداية جديدة بكتاب آخر ليس له علاقة بما سبق. فإذا كانت قراءتي رواية أحاول أن أفصل بكتاب عن الفلسفة أو السياسة أو غير ذلك .. هكذا كان ديدني في القراءة. ولكن دخل علي عامل جديد جدير بالاهتمام؛ ألا وهي مروحة السقف التي أصرت أن تشعرني بوجودها لأني عند دخولي الغرفة كنت لا شعورياً أضغط على زر تشغيل المروحة والإضاءة في آن واحد، وأمارس بعد ذلك طقوسي اليومية: التخلي عن الملابس الرسمية إلى الملابس المنزلية الخفيفة التي لا تكاد أن تشعر بها.
بدأت الحكاية هذه بصوت صرير متقطع يصدر بعد كل ربع ساعة تقريباً .. لم أعبء بذلك في بادئ الأمر. ولكن ازداد قلقي بعد أن أصبح صوت الصرير يصدر باستمرار. كان هذا الصوت مانعاً للنوم بصورة مزعجة، ولم يكن إسكات المروحة بشكل نهائي قراراً حصيفاً – فعلى الأقل – إن حركة المروحة تمنع الباعوض من الدخول للغرفة والتمتع بما تبقى في أوردتي من دماء. نمت ليلتي الأولى في كوابيس وهلاوس مرعبة. ذاك الصباح سألت جاري الخبير في كل شيء عن حل لهذه المشكلة. لم يفكر كثيراً كعادته .. فعنده الحل الفصل في كل أمر جلل .. قال لي لا فض فوه: يا أخي ارجع للخمر مرة أخرى، وجرب أن تحتسي قدر ما تشاء من الخمر فإنك ستنام غرير العين دون أحلام ولا كوابيس .. نظرت إليه مندهشاً لأني في الأساس لم أتذوق خمراً البتة. قلت له ذلك. قال لي: طيب ما رأيك في المخدرات؛ فإنها تحملك إلى عوالم أخرى. قلت له: أخرى في عينك يا رجل .. أخرج من بيتي. لقد أخطأت في استشارة إنسان جاهل. خرج معتذراً. قلت له: اعتذارك غير مقبول. في اليوم التالي مباشرة جاءني ومعه ثلاثة من الجيران. بالطبع فتحت الباب على مصراعيه؛ فالأمر جلل. دخلوا وجلسوا، قلت في نفسي ربما هو اجتماع الدائرة المستديرة لحل مشكلة المروحة. وقد صدق حدسي. خاطبني جاري المحامي الذي يبدو أنه قد أوكلت إليه رئاسة الجلسة: لقد وصلنا خبر مشكلة مروحتكم العجيبة، كنت أحسبه سيقول المبجلة أو الموقرة، لكنه توقف عنوة وقال: لقد اجتمعنا ليلة أمس وناقشنا هذه المشكلة، عندما حاولت الرد أشار إلي بأن أسكت قليلاً؛ فكأنه سيلقي بياناً بعد المداولة والنقاش.
لقد ناقشنا المشكلة بشكل مستفيض بدءاً من تاريخ تشييد المنزل، وتاريخ تركيب المروحة وتوصلنا إلى الآتي: بالطبع لن ندين المروحة بأي جرم. ولن ندينكم أيضاً بالتقصير نحوها في شيء، لكننا نستغرب عدم اهتمامكم بالصيانة الدورية لهذه المروحة (المسكينة: هذه من عندي). التوصية الأولى: استبدال هذه المروحة الكائنة أمامنا بمروحة جديدة، والتوصية الثانية: وإذا لا تستطيع أن تقتني مروحة جديدة لضيق ذات اليد فيجب القيام بإجراء صيانة شاملة كاملة للمروحة في أسرع وقت ممكن، فربما تحتاج المروحة إلى تزييت، أو تغيير قطع غيار. وختم البيان بالسلام عليكم ورحمة الله. نظرت لهذا الجمع باندهاش بالذات جاري الذي استشرته أول الأمر. قلت لهم: بادئ ذي بدء أنا لم أطلب منكم استشارات بخصوص مروحتي العزيزة .. وهذا يُعدُّ تدخلاً في شؤوني الداخلية، وأنا لا أسمح بذلك. أما بيانكم هذا فأتمنى أن تجعلوا منه عصيراً فربما يفيدكم صحياً. والآن أنا أعلن انتهاء هذا المؤتمر الاستثنائي. وأطلب من رئيس المؤتمر والأعضاء مغادرة القاعة بكل هدوء خوفاً على إزعاج المروحة فهي الآن تغط في سبات عميق.
بعد خروجهم أصبح أمامي حلين لا ثالث لهما، إما أن أشتري مروحة جديدة، أو أقوم بصيانة شاملة .. وبما أني لا أملك ثمن شراء مروحة جديدة أخذت بالحل الثاني، اتصلت بالكهربائي الذي يقع محله في ناصية الشارع المقابل، وعدني بالحضور في أسرع وقت .. وكلكم يعلم أن إنتظار الفني في أي مجال يحتاج إلى صبر وقوة تحمل. لم يحضر ذاك الكهربائي إلا بعد يومين فكأنه بفعله ذلك أصبح متضامناً مع المروحة في تعذيبي ومنعي من النوم .. جاءني معتذراً بابتسامة لا أعرف لها أي محل من الإعراب .. قام بمهارة واقتدار بفك المروحة إلى أجزاء كثيرة حتى أني خفت من أنه لن يستطيع أن يجمعها مرة أخرى. قام مشكوراً بنظافة كل تلك الأجزاء وقدم لها التشحيم والتزييت اللازمين، والحمد لله لم تكن تحتاج إلى تغيير قطع غيار؛ فهي من النوع القديم جيد الصنع. وبعد ساعتين من هذه العملية قام بتركيبها وهو يقطر عرقاً. سألته هل ستعمل؟ أجابني بنظرة غريبة فهمت منها أن الإجابة نعم. نزل من السلم وقال لي اضغط على الزر، ضغطت برفق على زر تشغيل المروحة .. لكنها لم تعمل ولم تتحرك قيد أنملة .. كان حديثنا في هذه المرحلة بالنظرات؛ فلا حاجة لحروف أو كلمات. تقابلت نظراتنا. قال لي: أنت في حاجة إلى مروحة جديدة.