مقالات سياسية

الصراع بين حكومة كامل إدريس والحركات المسلحة: خلاف على المناصب أم اختبار لوحدة السودان على خلفية اتفاق جوبا؟

د. محمد آدم عثمان

منذ إعلان الدكتور كامل إدريس رئيسًا لحكومة تكنوقراط في السودان في يونيو 2025، عاد الجدل السياسي إلى الواجهة حول مستقبل اتفاق جوبا للسلام، بما يشمله من مسارات متعددة، أبرزها دارفور وشرق السودان.
وفيما تطرح الحكومة الجديدة رؤية تقوم على الكفاءة والحوكمة المستقلة، تصر الحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق على أن تمثيلها السياسي في السلطة هو حق أصيل، وأحد أعمدة التسوية الوطنية التي أنهت الحرب.

فهل نحن أمام خلاف إداري حول التعيينات؟ أم أن السودان يمر بـ اختبار مصيري لوحدة العملية السلمية وصلاحية اتفاق جوبا في ظل المتغيرات؟

أولًا: خلفية الاتفاق

في 3 أكتوبر 2020، تم توقيع اتفاق جوبا للسلام بين الحكومة الانتقالية وعدد من الحركات المسلحة، منها:

حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي.

حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم.

الجبهة الشعبية المتحدة ومؤتمر البجا عن شرق السودان.

حركات من مساري الشمال والوسط، تحت مظلة الجبهة الثورية السودانية.

نصّ الاتفاق على تمثيل الحركات بنسبة 10–15% من المناصب التنفيذية، إلى جانب ترتيبات أمنية، وعدالة انتقالية، وتأسيس صناديق تنمية خاصة بالأقاليم المتأثرة.

لكنّ شرعية هذا التمثيل ظلّت محل جدل داخلي، خاصة في شرق السودان، حيث عارض “مجلس نظارات البجا” المسار باعتباره تمّ دون تفويض شعبي، بينما بقيت بقية المسارات رهينة الصراعات السياسية وموازين النفوذ.

ثانيًا: حكومة إدريس ومسار التصادم

عند تشكيل حكومة إدريس، أعلن الرجل عن نهج تكنوقراطي يرفض المحاصصة السياسية، معتبرًا أن البلاد تحتاج إلى كفاءات لا إلى توزيع ولاءات.

لكن هذا التوجه قوبل برفض واسع من الحركات المسلحة، التي اعتبرته خرقًا واضحًا لبنود الاتفاق، خصوصًا المادة (8.3) التي تنص على:
مشاركة أطراف العملية السلمية في جميع مستويات الحكم.

أبرز مواقف الحركات المسلحة:
حركات شرق السودان بقيادة أسامة سعيد عبّرت عن استيائها من استبعادها الكامل من الحكومة.

حركة تحرير السودان (مناوي) أبدت قلقًا من التوجه الجديد، وأكدت على التمسك بمكتسباتها السياسية.

جبريل إبراهيم رأى في خطاب “التكنوقراط” غطاءً لإقصاء الحركات وتهميش قوى السلام، مشددًا على أهمية استكمال الترتيبات الأمنية وتقاسم الثروة.

ثالثًا: فرضيات جوهر الخلاف
يمكن تحليل التوتر القائم من خلال أربع فرضيات رئيسية:

1. صراع على الموارد لا على المبادئ

وزارات مثل المالية، الطاقة، المعادن، والداخلية تُعد أدوات سيطرة سياسية واقتصادية.
ترى الحركات المسلحة أن هذه المناصب مفاتيح للتنمية والضمان السياسي، بينما تسعى الحكومة للسيطرة عليها تحت شعار “الاستقلالية المهنية”.

2. إعادة هيكلة اتفاق جوبا

ثمة مؤشرات على أن حكومة إدريس تسعى إلى إعادة ترتيب أوراق التمثيل في الاتفاق، خاصة بعد اعتراضات من مكونات محلية تعتبر أن الموقعين لا يمثلونهم فعليًا، مثل “نظارات البجا” في الشرق.

3. التكنوقراطية كغطاء سياسي

يرى مراقبون أن نهج التكنوقراط قد يكون وسيلة لإرضاء أطراف إقليمية ودولية، وضرب مراكز القوى المسلحة داخليًا، دون تقديم بدائل سياسية حقيقية.
الأمر الذي يُنتج تكنوقراطية مسيّسة بواجهة محايدة.

4. فراغ التوافق الوطني
تفتقد الحكومة الجديدة إلى غطاء سياسي جامع، ما يجعلها عرضة للطعن في مشروعيتها من قِبل الحركات المسلحة، التي ترى أنها تواجه “حكومة مدنية بغطاء عسكري” لا تمثل تطلعات السلام الشامل.

رابعًا: مستقبل المشهد
أمام السودان اليوم ثلاثة سيناريوهات رئيسية:

– التصعيد السياسي والميداني
انسحاب بعض الحركات من الاتفاق أو تحريك الشارع في المناطق الهشة قد يؤدي إلى اضطرابات أمنيّة تُعيد عقارب الساعة إلى الوراء.

– الحل عبر تسوية جزئية
قد يتم تقليص تمثيل الحركات، مع الإبقاء على مشاركة رمزية، ما قد يُخفف التوتر مؤقتًا، لكنه لا يعالج جذور التهميش أو انعدام الثقة.

– إعادة هيكلة شاملة لاتفاق جوبا
من خلال مؤتمر جامع يعيد النظر في التمثيل السياسي والاجتماعي، ويمنح فرصة لمكونات جديدة للمشاركة،
لكن هذا الخيار يتطلب إرادة سياسية نادرة وتوافقًا وطنيًا معقّدًا.

إذن اتفاق على المحك
الصراع الحالي بين حكومة كامل إدريس والحركات المسلحة لا يمكن اختزاله في مجرد خلاف على المناصب، بل هو امتحان حقيقي لصلابة اتفاق جوبا، ولقابلية السودان على التحول من ماضٍ منقسم إلى مستقبل تشاركي.

فإما أن تنجح الحكومة في تحقيق التوازن بين مطلب الكفاءة ومقتضيات العدالة السياسية،
وإما أن يُقوّض الاتفاق عمليًا، فـتنهار الثقة بين شركاء السلام، ويُفتح الباب مجددًا لـ موجة جديدة من التمرد والتهميش، لا سيما في المناطق التي لم تلتئم جراحها بعد.
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..