مقالات سياسية

الدولة والجيش: من الفوضى الى التأسيس الجديد (2)

من التجنيد إلى التكوين: نحو جيش بلا مشاة

نبيل منصور

يعيش السودان واحدة من أكثر لحظات تاريخه تعقيدا وتصدعا. فالدولة، كما عرفها الناس، انهارت أو تكاد، والجيش، الذي يفترض به أن يكون حامي السيادة، تحوّل إلى طرف في الحرب، وشريك مباشر في الانهيار. أما الشعب، فهو بين مطرقة الحرب وسندان الخوف من المستقبل، دون مشروع واضح يعيد تعريف الدولة ويستعيد المعنى المدني للأمن والسيادة.

من هذا الواقع تخرج هذه السلسلة من المقالات، لا لتعيد تكرار اللوم أو اجترار الشعارات، بل لتطرح أسئلة تأسيسية بجرأة:

ما معنى الجيش في السودان؟

كيف أصبح أداة للفوضى بدل أن يكون أداة حماية؟
وهل يمكن تخيّل نموذج جديد، يُبنى فيه الأمن على المعرفة والانتماء، لا على القهر والتسلّط؟

كيف نرفض المجرمين، وفي ذات الوقت نؤسس لقوة مسلحة جديدة تحمي الانتقال المدني لا تقوضه؟

وكيف نضع المواطن في قلب معادلة الدفاع بدل أن يبقى مجرد موضوع للتجنيد أو الاستقطاب او الانتهاك؟

هذه السلسلة ليست تنظيرا أكاديميا منعزلا، بل محاولة لبناء خريطة طريق تبدأ من الوعي وتنتهي بالتأسيس، تأسيس جيش، وتأسيس دولة، وتأسيس عقد اجتماعي جديد يعيد للسودان معناه، ولمواطنيه كرامتهم.

المقال الثاني :

(ب) من التجنيد إلى التكوين : نحو جيش بلا مشاة في السودان الجديد

في سياق الحديث عن ضرورة إعادة تعريف الأمن الوطني وبناء دولة مدنية بعد الحرب، تقف مسألة الجيش السوداني على مفترق طرق، هل نعيد ترميم جيش تقليدي دمّر الدولة، أم نبتكر نموذجا جديدا يُخرج الأمن من دائرة السلاح إلى مجال التمكين الوطني(*) بدلا عن الحزبي؟

هل نستمر في دفع رواتب لجيش ضخم لا عمل له في زمن الطائرات المسيّرة، أم نستثمر في المواطن نفسه ليكون محور الدفاع وحامي السلم الأهلي والهوية الوطنية؟

هذا المقال يقترح انتقالا نوعيا من مفهوم “التجنيد الدائم” إلى “التمكين الوطني المؤقت”، بحيث يصبح كل سوداني جزءا من منظومة الدفاع المدني والمعرفي، دون أن تتحول الدولة إلى ثكنة، أو الجيش إلى عائق جديد أمام الحرية.

أولا:
لماذا هذا النموذج الآن؟

ليس طرح هذا النموذج ترفا فكريا أو طموحا بعيد المدى، بل ضرورة تاريخية فرضتها ثلاثة تحولات كبرى:

1. لأن الجيش التقليدي أثبت فشله
• لم يحمِ الدستور ولا الحدود، بل في كل مرة يقفز إلى السلطة.
• لم يكن مؤسسة وطنية، بل لاعبا سياسيا.
• تسبب في حروب داخلية، وانقلابات متكررة، وانقسامات مجتمعية.

2. لأن التكنولوجيا قلّلت الحاجة للمشاة
• الحروب الحديثة تُدار بالدرونز، الذكاء الاصطناعي، الحرب السيبرانية، وأسلحة دقيقة تحتاج إلى عقول لا إلى أعداد.
• تخصيص ميزانيات ضخمة للمشاة بات عبئا، لا ضمانا.
3. لأن المجتمع يحتاج إلى إعادة بناء نفسي ومعرفي
• عبر برامج تدريب وطنية شاملة، تُعيد صياغة العلاقة بين المواطن والدولة.
• وتُرسّخ قيم الخدمة العامة والانتماء والمسؤولية.

4. لأن الجيش بصورته القديمة كان عبئا ماليا ضخما بلا مردود
• الجزء الأكبر من الميزانية كان يُهدر على وحدات المشاة، مرتباتهم، بدلاتهم، سكنهم، إعاشتهم، مهماتهم بشكل عام ومعاشاتهم دون عمل حقيقي.
• كانت الدولة تدفع لمئات الآلاف مقابل “الجاهزية”، لكنها لم تحصد إلا الانقلابات والحروب.

ثانيا:
تقسيم الجيش إلى جيشين – فني دائم وشعبي احتياطي:

النموذج المقترح لا يُلغي المؤسسة العسكرية، بل يعيد هندستها إلى جيشين متكاملين:

1. الجيش الفني الدائم :

• جيش صغير نسبيا لا يتعدي المائة ألف ، يتكوّن من وحدات متخصصة في الحرب السيبرانية، الطائرات المسيّرة، وبقية الوحدات الفنية الأخرى، بالإضافة إلى البحث والتطوير.
• احدي مهامه تدريب وتنظيم جيش المشاة الشعبي.
• هذا الجيش لا يشتبك مع السياسة، ويخضع مباشرة لسلطة مدنية ودستور واضح.

2. جيش المشاة الشعبي :

• هو نتيجة نظام الخدمة الوطنية/الإلزامية، وفيه يُدرَّب كل المواطنين لفترة محدودة بنظام صارم ودقيق ثم يُسجَّلون كقوة احتياط بعد انتهاء مدة خدمتهم .
• يمكن استدعاؤها عند الحاجة (كوارث، أزمات، عدوان خارجي).
• يتقاضى أفراده مكافآت رمزية خلال فترة الخدمة فقط، دون التزامات وظيفية لاحقة، ما يجعل الخدمة شرفا لا وظيفة .
• أثناء فترة خدمتهم يكلفون بحماية الحدود كعمل أساسي.

3. الأمن الداخلي: شرطة مدنية محترفة لا عسكرية :

• يُعاد تأسيس جهاز الشرطة على أسس حقوق الإنسان، التنوع، والخدمة المجتمعية.
• يُدرَّب على إدارة النزاعات، تأمين المدن، الحماية المدنية، لا على القمع أو العسكرة.
• ويُعتبر جزءا أساسيا من إعادة تعريف “الأمن الداخلي” كمفهوم مدني لا عسكري.
• استيعاب افراده وفق مستوي تعليم عالٍ يستطيع فهم المستجدات والتطورات في هذا المجال .

ثالثا: ملامح النموذج المقترح

1. تحويل الجيش إلى جهاز تدريبي وتكنولوجي دائم

• لا سلطة سياسية له.
• لا بنية للمشاة الدائمين فيه.
• يتحوّل إلى جهاز تقني وتدريبي مهمته الأساسية إعداد وتنسيق الخدمة الوطنية.
2. خدمة وطنية إلزامية مؤقتة

كل مواطن سوداني من الجنسين يمر بفترة محددة من التدريب الوطني حسب المستوى التعليمي، تشمل:
• تدريبا عسكريا أساسيا.
• تدريبا واعدادا للعمل المدني، القانون، حماية المنشآت، الإسعاف، إدارة الأزمات.
• بالاضافة الي برامج توعية وطنية .

التدريب العسكري في هذا النموذج ليس مجرد مهارة قتال، بل عملية غرس للانتماء الوطني، والتنشئة على مبادئ الدستور، والعمل الجماعي، والوعي بالأمن كمسؤولية معرفية ومجتمعية.

3. إنشاء “المركز القومي للخدمة الوطنية”
• مؤسسة مدنية/عسكرية مشتركة – لتقاطعها مع وزارة التربية والتعليم – تُشرف على التنسيب والتدريب في الولايات/الأقاليم بالتنسيق مع الجيش الفني فقط.
• تضمن عدالة التوزيع الجغرافي، ومنع التمييز، ومراقبة الأداء.

4. نظام “الاحتياط المدني”
• بعد انتهاء الخدمة، يُدرج المواطن في احتياط مدني غير دائم.
• يُستدعى بين فترة واخري لتدريب محدود للتحديث والمواكبة.
• لا يتقاضى أفراده رواتب شهرية، بل يُحترمون كجزء من منظومة السيادة الشعبية.

رابعا:
المكاسب الوطنية من هذا النموذج:

1. خفض الإنفاق العسكري لصالح الخدمات
فالمليارات التي كانت تذهب لتمويل جيوش خاملة، تُحوّل إلى الصحة، التعليم، البنية التحتية.
2. تحصين الدولة من الانقلابات
إذ لا توجد قوة دائمة تستطيع السيطرة، لأن القوة موزعة ومؤقتة ومدنية في الأصل.
3. رفع مستوى الوطنية والانتماء.
كل مواطن سيشعر أنه ساهم في حماية البلد، وسيُخلق رابط جديد بين الدولة والمواطن غير قائم على الراتب أو الولاء الحزبي.
4. التحديث التكنولوجي المستمر
تُوجَّه الموارد نحو بناء وحدات فنية احترافية تكنولوجية دائمة، ويتم تطويرها باستمرار لتواكب العصر.

خامسا:
أسئلة مشروعة تحتاج إلى إجابة
• هل يمكن أن تنجح الخدمة الوطنية دون استغلال سياسي؟
نعم، إذا خضعت لإشراف مدني ومجتمعي حقيقي، ولم تُستغل كمزرعة حزبية كما فعلت الإنقاذ.
• هل يشمل النظام النساء؟
نعم، بصيغ ملائمة وغير تمييزية، تشمل التدريب المدني والخدمة الوطنية المتساوية في القيمة والمسؤولية.
• هل النموذج بديل للجيش تمامًا؟
لا، بل هو بديل للمشاة التقليديين، مع بقاء وحدات فنية احترافية دائمة.

خاتمة:
دولة بلا جيش دائم هل ممكنة؟

هذا المقال لاعطاء فكرة عامة عن ملامح الجيش الجديد دون الخوض في التفاصيل الدقيقة وهو لا يقترح إلغاء الجيش وإنما التخلص من النمط التقليدي القديم الذي تحول الي عبء علي الدولة والمجتمع ، لصالح نموذج جديد يعيد للجيش دوره الطبيعي في إطار مدني دستوري، إضافة الي إعادة تعريفه للأمن بأنه مسؤولية جماعية هدفه حماية البلد على أسس جديدة:
• المواطن هو حارس الدولة،
• المجتمع هو خندقها الأول،
• والدفاع يبدأ من العقل، لا من البندقية.
إن بناء هذا النموذج ليس قرارا وطنيا ملحا فحسب، بل خطوة جذرية في طريق إعادة بناء الدولة، بعد أن اختطفها العسكر، ودمّروا معناها، لعقود طويلة.

٢ يوليو ٢٠

(*) التمكين الوطني:
يقصد به التنشئة الوطنية، الصياغة الوطنية، التربية الوطنية بدلا عن التمكين الحزبي.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..