“القتال في السودان – ينبغي أن يولي الألمان اهتماماً أكبر لهذه الحرب”
من الأرشيف الألماني

Roman Deckert بقلم رومان ديكرت1 ــ
“شبيجل أون لاين” 5 يونيو 2025
تقديم وترجمة حامد فضل الله \ برلين
تدور في السودان حرب لا يبدو أنها تثير اهتمام السكان في ألمانيا، خاصة في ظل تعدد الأزمات الحالية، هذا خطأ كبير. فأحد الأسلحة المهمة المستخدمة في هذه المعارك، هي أسلحة ألمانية،” بندقية، جي 3″.
بدأت القوات المسلحة الألمانية (بوندسفير) قبل ما يقرب من عامين، في أبريل 2023، بتنفيذ رحلات إجلاء من السودان. وكان الصراع على السلطة قد اندلع هناك قبل أسبوع بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو “حميدتي” ، وتصاعد إلى حرب دموية. وخلال وقف لإطلاق النار، قام الجنود الألمان بإجلاء نحو 700 شخص من العاصمة الخرطوم، من بينهم أكثر من 200 مواطن ألماني.
منذ ذلك الحين، دمرت المعارك بين قوات الدعم السريع شبه العسكرية بقيادة حميدتي وتحالف الجيش والميليشيات بقيادة البرهان، أجزاء واسعة من هذا البلد الواقع في شمال شرق إفريقيا. وقد أُجبر أكثر من 11 مليون شخص على النزوح داخل البلاد، فيما لجأ أكثر من ثلاثة ملايين إلى الدول المجاورة. ويسود في بعض مناطق البلاد، خطر المجاعة، وأكثر من نصف عدد السكان يعتمدون على المساعدات الإنسانية. وقد يتجاوز عدد القتلى 150 ألف شخص.
الأسباب التي أدت إلى هذه الحرب معقدة. ولكن يمكن القول ببساطة: إن جذور كل هذا الشر تكمن فيما وصفه خبير السودان البريطاني أليكس دي وال بـ”عسكرة السوق السياسي”. أي أن الفاعلين السياسيين لا يصلون إلى السلطة في الوقت الحاضر إلا باستخدام العنف والسلاح.
وماذا عن ألمانيا؟ التي تغض الطرف الآن.
لقد أنهكتها تعدد الأزمات، وحرب أوكرانيا، والحرب في غزة، فتجاهل الرأي العام الألماني هذا الصراع الوحشي وما صاحبه من كارثة إنسانية، واكتفى بهز الكتفين، والا مبالاة. وهذا خطأ: ينبغي لألمانيا أن تهتم بهذا الصراع – لأنها مسؤولية جزئياً، فيما آلت إليه الأمور في السودان. فقد كانت جمهورية ألمانيا الاتحادية القديمة هي من قامت ببناء وتعزيز جهاز القمع السوداني المكون من الجيش والمخابرات والشرطة خلال الحرب الباردة (التي كانت حرباً ساخنة في القرن الأفريقي).
اختبار لعزل جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية)
كان نقطة الانطلاق لهذا التعاون المشؤوم لحظة زمنية: صاغت في ديسمبر عام 1955، وزارة الخارجية الألمانية مبدأ هالشتاين2، وكان الهدف منه منع الدول التي تحررت حديثًا في “العالم الثالث” من الاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية قانونيًا. وبعد أيام قليلة فقط، قرر البرلمان السوداني إعلان استقلال البلاد عن الاستعمار البريطاني-المصري.
أصبحت الدولة الجديدة على النيل الأعلى أول اختبار لعزل النظام الشيوعي الألماني (نظام الحزب الاشتراكي الموحد) على المستوى الدولي.
حاول الاستراتيجيون في بون من ذلك الحين فصاعدًا كسب ودّ الحكّام السودانيين – وخاصة من خلال تقديم مساعدات كبيرة في مجال غير مدني، بداية من عام 1957
وهكذا، اتفق جهاز الاستخبارات الخارجي الألماني مع وزارة الداخلية في الخرطوم على برنامج تدريب.
بدأ بعد فترة وجيزة، مكتب الشرطة الجنائية الاتحادي شراكة طويلة الأمد مع الشرطة السودانية. وأنشأت في عام 1958، المخابرات الألمانية مكتبًا تمثيليًا رسمياً في الخرطوم مع التمويه عن أهدافه.
لم يؤثر الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال إبراهيم عبود في نوفمبر 1958، والذي تبعته حتى اليوم عشرات الانقلابات ومحاولات الانقلاب، على هذا التعاون القائم فحسب، بل تعزز أكثر.
فقد أبرمت بعد شهر واحد فقط، شركة “فريتس فيرنر، وهي شركة تصنيع أسلحة مقرها في مدينة غايسنهايم، عقدًا مع المجلس العسكري الحاكم لبناء مصنع ذخيرة لإنتاج ذخائر من عيار 7.62 ملم من حلف شمال الأطلسي (الناتو).
كانت الشركة المملوكة للحكومة الفيدرالية تعمل تقليديًا في الظل. فقد عمل اثنان من مديريها خلال الحقبة النازية كعملاء للأدميرال فيلهلم كاناريس، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الألمانية السرية، وكان أحدهما على الأقل على صلة وثيقة بجهاز المخابرات الألماني، كما كان للآخر علاقات مع فالتر شيلينبرغ، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية التابع لقوات الأمن الخاصة ، في مكتب أمن الرايخ (RSHA) الرئيسي
قام جهاز الاستخبارات الألماني في أوائل عام 1959 بوضع الأساس لبناء دولة رقابة في السودان من خلال تزويدها بـ”أجهزة خاصة (أنظمة ميكروفونات وغيرها)”. وفي الوقت نفسه، أرسل مكتب الشرطة الجنائية الاتحادي إلى الخرطوم، ضابط شرطة يتمتع بمعرفة تقنية خاصة في مجال الاتصالات.
أثناء تجسسهم على بعثة المكتب التجاري التابعة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية، ويدرّبون زملاءهم السودانيين، قام ضباط جهاز الاستخبارات الألماني والشرطة الجنائية الاتحادية بتوفير الحماية لطبيب FormularbeginnFormularende
معسكرات الاعتقال هورست شومان، الذي فرّ إلى جنوب السودان وكان يدير مستشفى هناك. وقبل أن يصدر الطلب لتسليمه، تمكّن من الفرار إلى غانا – وقد امتدحت إحدى التقارير في مجلة “كريست أوند فيلت” هذا الرجل واصفةً إياه بأنه “ألبرت شفايتسر الثاني”.FormularbeginnFormularende
وكان كاتب التقرير غيسلير فيرسينغ من المقربين لرئيس الاستخبارات شيلينبيرغ بصفته “داعية ــ مروجاً”، تابعاً لقوات الخاصة (الإس إس)، ويحافظ الآن على علاقات جيدة مع جهاز الاستخبارات الاتحادي الألماني. لم يكن التضامن مع القاتل الجماعي مستغربة. فإريك أولبرك كتابع لجهاز الاستخبارات الألماني، قد عمل بنفسه في المكتب السادس التابع لهيئة الأمن الرئيس للاشتراكيين الوطنيين، وكان يشغل في نهاية خدمته رتبة عقيد.
بالكاد تُعرف تفاصيل دقيقة عن الدور الذي اضطلع به أولبروك في مكتب الأمن الرئيسي للرايخ.
ومن اللافت أنه دافع في محاكمة فرق القتل المتنقلة في نورنبرغ عام 1947/1948 عن مارتن زاندبرغر، الذي كان أحد الشخصيات البارزة في تنفيذ الهولوكوست في منطقة البلطيق. وأصبح لاحقاً رئيس قسم في جهاز الاستخبارات الخارجية التابع لقوات الأمن الخاصة (الاس أس). وعاش حتى وفاته في عام 2010 في شتوتغارت دون أن يتعرض للمساءلة، كأحد آخر مجرمي النظام النازي البارزين الذين ظلوا على قيد الحياة.
نعود إلى أولبرك: انضم أولبرك في عام 1948 إلى منظمة غيلن، التي كانت تُعتبر سلف جهاز الاستخبارات الألماني.
وانتقل في عام 1952 إلى القاهرة، حيث عمل ضمن دائرة المستشارين العسكريين المكوّنة من ضباط سابقين في جهاز الاستخبارات الخاصة (الاس أس)والجيش الألماني (الفيرماخت) ، ووفقاً لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية عمل هناك كتاجر أسلحة. وبحسب ما توصل إليه غيرهارد زيلتر، الذي أجرى أبحاثًا ضمن لجنة المؤرخين المستقلة، حول استمرارية النفوذ النازي في جهاز الاستخبارات الألماني، فإن أولبروك كان يتردد في الأوساط نفسها التي كان يتواجد فيها غيرهارد ميرتينز – الذي أصبح من أشهر تجار الأسلحة في ألمانيا الغربية القديمة – وألويس برونر، المتخصص في الترحيل القسري لدى أدولف آيخمان (أيشمان).
بعد انتقاله إلى السودان عام 1958، لعب أولبروك دورًا محوريًا لمدة عقد من الزمن في بناء جهاز الاستخبارات والشرطة السوداني. وكما علم الجيش الأمريكي من مصدر موثوق في الخرطوم، فقد كان أولبرك “عنصرًا حاسمًا” في ترتيب المساعدات العسكرية الألمانية الغربية لنظام عبود أيضاً..
وقد تم ذلك بالتعاون مع “صديقه المقرّب” هربرت بيكر، الذي كان مسؤولًا عن الشؤون الاقتصادية العسكرية في وزارة الدفاع الألمانية في بون. وكان يُعتبر “الجنرال المفضل” (بحسب مجلة دير شبيجل) لوزير الدفاع الألماني فرانتس يوزف شتراوس (من الحزب المسيحي الاجتماعي)، وقد لاحقته لاحقًا شبهات بأنه أغنى أصدقاء شتراوس من خلال صفقات تسليح فاسدة.
كان شتراوس ، هو من اتفق في نهاية عام 1961 مع قائد الجيش حسن بشير نصر في مقر القيادة العسكرية في بون، على مساعدات عسكرية بقيمة 120 مليون مارك ألماني. شملت هذه المساعدة،
كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة، من بينها 13,165 بندقية جي 3 هجومية من طراز من إنتاج شركة هيكلر آند كوخ، بينما تولت شركة فريتس فيرنر توسيع مصنع الذخيرة.
كما حصل الجيش السوداني على نحو 1000 شاحنة مرسيدس ذات دفع رباعي؛ وتم تدريب أكثر من 300 جندي سوداني في صفوف الجيش الألماني (البوندسفير). وكان السياسي شتراوس من الحزب
الاجتماعي المسيحي قد أصدر توجيهًا داخليًا مفاده: “يجب بدءًا من السودان إنشاء تكتل من الدول ذات التوجه الغربي.” وكان من المفترض أن يتم “الاستفادة من السمعة غير العادية للجندي الألماني وإنجازاته”. وكان حسن بشير نصر قد أبدى إعجابه بعد اللقاء الأول قائلاً: “الوزير شتراوس سوداني”.
بالطبع، لم تتصرف جمهورية ألمانيا الاتحادية كأداة في يد واشنطن. فقد ظل وزير الخارجية الأمريكي دين راسك في حيرة من أمره بشأن محتوى الاتفاقية حتى بعد مرور ستة أشهر. أما الحلفاء المستاؤون في لندن فلم يهدؤوا إلا في عام 1963 من خلال صفقة سلاح جديدة: حيث اشترت وزارة الدفاع الألمانية 97 عربة استطلاع مدرعة بريطانية لصالح السودان، وتم احتساب ذلك عمليًا ضمن اتفاقية التعويض عن نفقات الجيش البريطاني في منطقة الراين.
أما صديق أولبروك المقرب – بحسب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية – كان الملحق التجاري ريشارد بول، الذي غادر الخرطوم عام 1960، لكنه ظل على صلة بأولبروك من خلال انتقاله إلى الإدارة التنفيذية لشركة “فريتس فيرنر”. في المقابل، حصل أولبروك على دعم ميداني من ضابط في الجيش الألماني له خلفية نازية بارزة: فيلهلم دييمكه، الذي كان يشغل منذ عام 1936 منصب المدير التنفيذي لفرع الحزب النازي في القاهرة، وقام خلال الحرب بتنفيذ مهام خاصة لصالح وزارة الخارجية الألمانية في شمال إفريقيا.
إخوة السلاح في “الأرض المحروقة وإبادة السكان الأصليين”.
قبل وقت قصير من الإطاحة بعبود في أكتوبر 1964 إثر انتفاضة شعبية، وعدت وزارة الدفاع الألمانية بمساعدات عسكرية إضافية بقيمة 40 مليون مارك ألماني، من ضمنها 20,000 بندقية جي 3 وخط إنتاج ثالث لمصنع الذخيرة. لم يكن للاستراتيجيين في بون أي تحفظات، على الرغم من أن حربًا أهلية وحشية كانت تندلع حينها في جنوب السودان.
السفير أوسوالد فريهر فون ريشتهوفن، الذي انضم إلى قوات “إس إس” في عام 1935، أفاد قبل شهر واحد فقط من تقديم التعهد بأن “القوات السودانية، على الأقل في بعض مناطق الجنوب، يبدو أنها تتبع سياسة الأرض المحروقة وإبادة السكان الأصليين”.
ألمانيا تسلّم “منشار هتلر”.
كان أحد أكبر العوائق أمام المساعدات الجديدة، هو قطع السودان العلاقات الدبلوماسية في مايو 1965، مع بون إلى جانب ثماني دول عربية أخرى، بسبب إقامة جمهورية ألمانيا الاتحادية علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.
رسم رئيس القسم فيرنر كنِيبر، في وزارة الدفاع، ورئيس قسم التدريب العسكري، والذي كان في السابق خبير تسليح في هيئة قيادة “الفيرماخت” (اسم القوات المسلحة الألمانية في الفترة من عام 1935 ــ 1945 ـ المترجم)، الخط العام، حيث أوصى بمنح السودانيين بعض “الحلويات” أي حافز لإعادة العلاقات.
وهكذا، حصل الجيش السوداني في السنوات التالية عبر شركة “فريتس فيرنر” على 15,000 بندقية جي 3 و1.500 رشاش من شركة راينميتال، المعروف أكثر بلقب “منشار هتلر”. بالإضافة إلى ذلك، تمكن العاملون في مصنع الذخيرة في “غايزنهايم” من إنشاء خطي إنتاج إضافيين. كما تم تمويه مشاريع عسكرية أخرى بأنها مدنية، مثل تدريب طياري المروحيات من قبل شركة يملكها أدولف غالاند، الجنرال السابق في سلاح الجو المقاتل.
سخرية التاريخ:
استغلت مجموعة من الضباط الناصريين هذه “الحلويات” بالذات في مايو/ أيار 1969 لتنفيذ انقلاب عسكري والاستيلاء على السلطة – وكانت إحدى أولى خطواتهم الرسمية الاعتراف بالنظام الحاكم في ألمانيا الشرقية (نظام الحزب الاشتراكي الموحد) بموجب القانون الدولي. وكان زعيمهم، جعفر النميري، قد تلقى تدريباً عسكرياً في ألمانيا الغربية.
استغلت الحكومة الائتلافية الكبرى المنتهية ولايتها في بون، هذا الاختراق الدبلوماسي الذي حققته ألمانيا الشرقية كفرصة للتخلي عن مبدأ هالشتاين، الذي كان من المفترض أن يكون السودان نموذجًا مثاليًا لتطبيقه.
لقد بقى مصنع الذخيرة في “الشجرة،”، حتى بالنسبة لحكومة التحاف الاجتماعي الليبرالي، يمثل أصعب ملف في العلاقات الثنائية. فقد سمُح في أواخر عام 1969، لشركة فريتس فيرنر بتصدير 800 طن من المواد الأولية إلى السودان وحتى ممثل جهاز الاستخبارات الألمانية رولف برشولد، الذي كان ربيبًا لأولبروك وتولى منصبه عام 1967، استطاع البقاء في الخرطوم.
بالنسبة لوزارة أمن الدولة في برلين الشرقية، فقد أقام رئيس إدارة الاستخبارات الخارجية ماركوس وولف، شخصيًا، التعاون مع جهاز الاستخبارات والجيش السوداني. لكن عندما عاد النميري إلى التقرب مع الغرب في عام 1971، ذكر القائم بالأعمال الألماني الغربي، كلاوس أورش، عن محادثة مع دبلوماسي من ألمانيا الشرقية، قائلاً:
عندما سألته ما إذا كان بإمكاني الآن التحدث عبر الهاتف بهدوء، أجاب مبتسمًا: نعم. وأضاف مازحًا” و يمكننا الآن شغل المناصب التي أصبحت شاغرة من جديد”. FormularbeginnFormularende
لقد ازدادت في الواقع المساعدات المقدمة للجيش والمخابرات والشرطة السودانية خلال فترة التحالف الاجتماعي الليبرالي في ألمانيا الغربية: ووفقًا للبيانات الرسمية الأمريكية، بلغت صادرات الأسلحة الألمانية الغربية إلى السودان بين عامي 1976 و1985 حوالي 480 مليون دولار أمريكي. وقد شملت هذه الصادرات أيضًا صفقات تجارية بحتة تم تمويل معظمها من قبل المملكة العربية السعودية، مما جعل جمهورية ألمانيا الاتحادية أهم بلد مزود للجيش السوداني.
في خضم الطفرة الجديدة في مجال التسلح، شارك بعض من أشهر تجار السلاح في العالم. من بينهم السعودي عدنان خاشقجي، الذي تلقى على ما يبدو عمولات ضخمة في صفقة فاسدة تتعلق بشاحنات ماغيروس-دويتس مع مصطفى، شقيق الرئيس النميري. كما دخل غيرهارد ميرتنز، رفيق أولبروك في قوات الأمن الخاصة والمخابرات الألمانية، مجال الأعمال في السودان. وخلال زيارة له إلى الخرطوم عام 1977، ترك لدى السفير هانز هيرمان كهلا، انطباعًا بأنه لا يزال يحتفظ بعلاقات ممتازة مع حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي و الحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، وكذلك “مع جميع الجهات التي تتعامل مع إنتاج وتصدير الأسلحة”.
واصلت الحكومة الائتلافية “المسيحي ــ الليبرالي” بقيادة المستشار هيلموت كول في البداية تقليد المساعدات العسكرية. صحيح أن مراقبي الصادرات في وزارة الخارجية الألمانية شعروا لأول مرة بالريبة في عام 1985، حيث طُلبت قطع غيار لمصنع الذخيرة بعد عقد من السلام الهش في جنوب السودان، الذي اندلع فيه تمرد جديد. ومع ذلك، أعطوا في النهاية الضوء الأخضر لشركة فريتس-فيرنر لتوريد قطع غيار لمصنع الذخيرة.
تتجلى مدى مثابرة هذه القوى من حقيقة، حتى بعد الانقلاب الإسلامي عام ١٩٨٩، بقيت مجموعة من مستشاري الجيش الألماني متمركزة في الخرطوم لإنشاء مركز للتدريب المهني. ووافقت وزارة الدفاع الألمانية، حتى في عام ١٩٩٣، على تمويل جديد لمنع المشروع من أن يصبح خرابًا تنمويًا – في وقت كان أسامة بن لادن يقيم فيه بالفعل في الخرطوم.
يتضح مدى امتداد إرث المساعدات العسكرية الألمانية إلى الألفية الجديدة، من خلال تقارير خبراء في شؤون السودان، حيث يُشير اسم ميليشيات الجنجويد الإبادية إلى البندقية الألمانية جي 3 وقد ساهمت الميليشيات بدورها في ظهور قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي، والتي أشعلت فتيل الحرب المدمرة قبل عامين.
في حين أن اليمين الجديد في ألمانيا يغذي المخاوف بشأن اللاجئين القادمين من أفريقيا، فإن أزمة اللاجئين الأكبر في العالم هي، إلى حد كبير، إرث اليمين القديم. الإنترنت مليء بصور لمقاتلي قوات الدعم السريع وهم يحملون بنادق جيم ثلاثة3 .
أما بالنسبة للداعمين الرئيسيين الحاليين لهم، وهم الإمارات العربية المتحدة، التي زارها مؤخراً الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فقد وافقت حكومة الائتلاف الثلاثي بقيادة المستشار أولاف شولتس العام الماضي على تصدير أسلحة بقيمة تقارب 150 مليون يورو.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Roman Deckert, Kämpfe im Sudan, dieser Krieg sollte Deutschland mehr beschäftigen, Spiegel Online, 05.06.2025.
1ــ”رومان ديكرت”، من مواليد عام 1974، درس التاريخ في جامعة الرور في بوخوم \ ألمانيا، وزار السودان لأول مرة عام 1997 للتدريب في معهد جوته في الخرطوم. ومنذ ذلك الحين، يركز في أبحاثه على صادرات الأسلحة الألمانية إلى المنطقة. يعمل في جنيف كمحلل مستقل مختص بالسودان وجنوب السودان، وخصوصًا في مشاريع التعاون في تطوير الإعلام والتبادل الثقافي.
2 ــ عقيدة هالشتاين، مبدأً من مبادئ السياسة الخارجية لجمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية)، وطبق من عام 1955 حتى عام 1970. ونصّت هذه العقيدة على أن جمهورية ألمانيا الاتحادية لا تقيم أو تحافظ على علاقات دبلوماسية مع الدول التي تعترف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية) كدولة ذات سيادة.
3 ــ كتب أليكس دي وال الباحث البريطاني في أحد كتبه عن دارفور بأن اسم “الجنجويد” مشتق من اسم البندقية الألمانية
أي ” جيم ثلاثة”.G3
لا يوجد تفسير متفق عليه لكلمة الجنجويد، وقد جعلها البعض اسما منحوتا من عبارة “جن على جواد” وجعلها البعض من ثلاث كلمات تبدأ كلها بحرف الجيم وهي: جن وجواد وجيم ثلاثة.
حاشية:
لحظة ــ سربرنيتسا في السودان
Ein Srebrenica- Moment im Sudan
بقلم إبراهيم الدومة، زينب بخيت، وإيريك أ. فريدمان
صدر المقال أعلاه في العدد الشهريّ (يوليو 2025) من مجلّة “أوراق للسياسة الألمانيّة والدوليّة”، والمقال قصير وفضلت أن أقدمه هنا كحاشية وبصورة بصورة مختصرة أيضاً، ومُشيراً إلى أهم النقاط التي تعرض لها المقال:
ــ سربرنيتسا. رواندا. حلب. كل واحد من هذه الأسماء يرمز إلى رعب لا يوصف – إلى أماكن أصبحت مرادفًا للإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية.
ــ والآن، بعد أن أصبحت أماكن في جميع أنحاء السودان مسرحًا لجرائم مروعة، يعيد التاريخ تكرار نفسه بوحشية مألوفة تثير الرعب.
ــ الاِبادة الجماعية في دارفور مستمرة وتُعد من أحلك الحلقات في الحرب الأهلية المستمرة في السودان.
ورغم صعوبة تحديد عدد الضحايا بدقة، تُقدّر مصادرنا الميدانية أن مئات الآلاف من الأشخاص قُتلوا أو سقطوا ضحايا للجوع وسوء التغذية والأمراض بسبب الحرب.
ــ الدعوة إلى الثقة في المجتمع المدني السوداني!
فالسودان مليء بالمنظمين ذوي الخبرة وعمال الإغاثة في الخطوط الأمامية، الذين سيكونون على استعداد للعمل إذا توفرت لهم الموارد اللازمة.
ــ الأولوية العاجلة هي التعامل مع القوى الخارجية التي تؤجج هذه الحرب. وتشمل في المقام الأول الإمارات العربية المتحدة، التي ساهمت في فظائع قوات الدعم السريع أكثر من أي دولة أخرى، ولا تزال تسلح وتدعم هذه الجماعة.
عواقب الإفلات من العقاب!
ــ لم يُحاسب الجنجويد والقيادة العسكرية السودانية على الإبادة الجماعية الأصلية في دارفور – والآن نرى العواقب.
ــ يجب أن تغير الدبلوماسية مسارها أيضاً. فحتى الآن، تركز محادثات السلام على مُرتكبي الحرب، وليس على المجتمع المدني السوداني وقادة منظمات المجتمع المحلي، الذين تقوم رؤاهم للسلام على الكرامة والعدالة والمساءلة.
بالرغم من ارتكاب جرائم فظيعة ضد الإنسانية في السودان إلا أن بعصاً من أروع وأشجع البشر في عالمنا يعيشون هناك. يخطر في البال لجان المقاومة، وغرف الاستجابة الطارئة، وفريق زمزم. وأولئك المتطوعين الذين رفضوا التخلي عن الشعب السوداني في خضم أسوأ أزمة إنسانية في العالم. وأعضاء الجالية السودانية في المهجر، الذين يبذلون كل ما في وسعهم ويرفضون السماح للعالم أن يدير ظهره، والمنظمات الأجنبية بالخارج … ونفكر أيضًا في الأمهات اللواتي يقدمن على السير لأيام طويلة سيرًا على الأقدام دون طعام، ويخاطرن بالموت أو بالتعرض للعنف الجنسي، فقط من أجل إنقاذ أطفالهن.
لقد أنقذت جهودهم عددًا لا يُحصى من الأرواح، لكن صمودهم ليس بلا حدود.
فهل سنقف إلى جانبهم؟ إذا وقفنا مكتوفي الأيدي نشاهدهم يموتون، فإن جزءًا من إنسانيتنا يموت معهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Ibrahim Alduma, Zeinab Bakhiet und Eric A. Friedman, Ein Srebrenica- Moment im Sudan, Blätter für deutsche und internationale Politik, Juli 2025.
— Project Syndicate
والكُتاب حسب ما جاء تعريفهم في المجلة:
إبراهيم الدومة، مدافع عن حقوق الإنسان من دارفور في السودان، زينب بخيت، محامية، زميلة في مركز الابتكار في قانون وسياسات الصحة بكلية الحقوق بجامعة هارفارد، إريك أ. فريدمان، محامٍ، باحث في العدالة الصحية العالمية في مركز القانون بجامعة جورجتاون.
E-mail: [email protected]
.
Formularbeginn
Formularende