مقالات سياسية

حين يصبح الانقلاب هو “السلطة الشرعية” والثورة الشعبية “استهبال ساكت”

عبد القادر محمد احمد / المحامي

▪ كتب الاستاذ عادل الباز مقالا بعنوان: (الوطن ليس صورة شخصية..) ينتقد من أسماهم “البلابسة” و”القحاطة” بقوله ان كل منهم يريد أن يرسم الوطن على صورته. وان (فكرة الإغراق التي انتهجها القحاتة هي ذاتها فكرة الإغلاق التي يلوح بها البلابسة، وكلا الفكرتين اقصائيتان). ويربط ذلك بخبر عن ترشيح السفير نور الدين ساتي لمنصب وزارة الخارجية، ورفض “البلابسة” ترشيحه بحجة أنه “قحاتي”. يستهجن الباز هذا الرفض بقوله ماذا يضير لو جاء ساتي خادما للوطن تحت قيادة “دولته الشرعية” ؟ ويضيف، ماهي المشكلة لو عاد الآخرون وقالوا جئنا نخدم وطننا تحت امرة “قيادته الشرعية” ؟ إذا كنا قد قبلنا من حملوا السلاح ضد الوطن فلماذا نرفض من جاء “يسعى بالتوبة”؟

▪ وسط هذا الكلام الحميد، يدس الباز عبارات غير حميدة: “دولته الشرعية” – “قيادته الشرعية” – “التوبة”.! لا أدري ما الذي أدخل “التوبة” هنا، وهو مصطلح ديني جاد لا علاقة له بالتباين في المواقف والرؤى.! وما يستوقف أكثر ان عبارات “القيادة الشرعية” و”الدولة الشرعية”، تمنح الانقلاب وقائده، شرعية لا وجود لها، وفي المقابل يتعمّد الباز تسفيه الثورة العظيمة التي قطع مسارها الانقلاب المشؤوم.

▪ للباز حقه في رأيه، لكن بحكم مهنته كصحفي، كان ينتظر منه أن يقوم بدور المؤرخ المعاصر المحايد، وليس رأيه الشخصي المجافي للواقع، والمتماهي مع الإنقاذيين في إنكار توصيف إسقاط نظام الانقاذ بأنه ثورة، ووصف أنقلاب أكتوبر بالشرعي.
لتوضيح خطل هذا الفهم نقف على مفهومي “الثورة” و”الانقلاب” في فقه القانون الدستوري وفي المتعارف عليه دوليا ومقارنته بواقع الحال. بهذا المفهوم الثورة هي: تغيير جذري في نظام حكم استبدادي، عبر حراك شعبي واسع، لإسقاط ذلك النظام تلبية لتطلعات الشعب في الحرية، والعدالة، والمساواة. وتكتسب شرعيتها الأخلاقية والسياسية من هدفها في إنهاء الاستبداد وتحقيق الديمقراطية.

قياسا: نجد أن الإنقاذ كانت نظاما شموليا تأسس علي الاستبداد والظلم والفساد، فقام ضده حراك شعبي غير مسبوق، رفع شعارات نبيلة وقدم تضحيات جسيمة انتهت بسقوطه. فسجل في وجدان الشعب ثورة عظيمة بكل مضامينها الدستورية والسياسية والأخلاقية.

▪ أما الانقلاب، فهو الاستيلاء على السلطة بالقوة، من نظام ديمقراطي منتخب، أو مسار انتقالي معترف به، بفرض الأمر الواقع بالقوة دون أي سند سياسي أو أخلاقي.

قياسا: نجد ان الحكومة الانتقالية لم تكن منتخبة، لكن شرعية حمايتها مستمدة من شرعية الثورة، المستمدة من إرادة الشعب، ومن الوثيقة الدستورية التي وضعت الإطار القانوني للمرحلة الانتقالية، وحددت تقاسُم السلطات بين المكونين المدني والعسكري، ورسمت الطريق نحو انتخابات تُفضي إلى نظام ديمقراطي. لذا، فإن انقلاب اكتوبر يتجاوز الفهم الدستوري إلى كونه غدرًا وخيانة وجريمة لن ينساها التاريخ، ضد تطلعات الشعب المشروعة. لهذا، فقد أجمع المجتمع الدولي على وصفه بالانقلاب.

▪ لذلك، فإن الادعاء بأن الإنقاذ سقطت بتآمر اللجنة الأمنية، مجرد إنكار للواقع. فقد سقطت بتواصل وتراكم نضالات وتضحيات الشعب عبر السنين، ثم اعتصام ميدان القيادة الذي جمع كل اهل السودان ليقولوا لا للاستبداد، وليشكل نواة حقيقية لوحدة الشعب، فأصبح مزارا للعالمين.

لقد استمر الضغط الشعبي الي ان اضطرت اللجنة مجبرة لتغيير قياداتها وبعض أعضائها. لكنها، خوفا على مصالحها نفذت انقلابٍ المجزرة. غير أن زلزال الثلاثين من يونيو أجبرها على الخضوع لإرادة الشعب، والتوقيع على الوثيقة الدستورية.

▪▪▪▪▪▪▪▪

▪ إن ثورة ديسمبر، في حراكها السلمي الذي قاده الشباب والنساء، وحجم تضحياتها، ونبل شعاراتها، وقوة وجبروت النظام الذي أسقطته، تُعدّ من أعظم الثورات في التاريخ الحديث. ولا يُغيّر من هذه الحقيقة الحديث عن أخطاء وقعت فيها الحكومة أو حاضنتها السياسية.

أو تجاوزات وقعت فيها لجنة ازالة التمكين، واذا كان لا زال بعض الشباب يتمسك بصحتها، فذلك بسبب تراكم الغبن، والحماس الثوري، وعدم التفريق بين “الشرعية الثورية” التي تعتمد على قوة الحراك الشعبي، وبين “الشرعية الدستورية” التي يجب أن تلتزم بالدستور والقوانين. وأهمية التمسك بشعار العدالة الذي رفعته الثورة وقننته الوثيقة.

▪ لكن، مهما كثر الحديث عن الإخطاء أو التجاوزات فإن ذلك لا ينفي حقيقة وجود تحرش وشيطنة ونية مبيته لتعويق مسار الانتقال، من قبل أولئك الذين يتحدثون اليوم عن تلك الإخطاء و التجاوزات، ويعتبرونها مبررا لقفل المواني وخلق الأزمات وقتل الشباب بالرصاص المجهول، وتحريض العسكر على الانقلاب على الشرعية، ولينتهي الأمر لهذه الحرب المدمرة.

▪▪▪▪▪▪▪▪

▪ نعود إلى مقال الأستاذ الباز، فرغم ما قد يبدو عليه من خطابٍ تصالحي في ظاهره، إلا أنه في جوهره ينطوي على مفاهيم مغلوطة، وتعريض بالثورة بخلفية فكرية معارضة لها ويتجلى ذلك في:

📌 يساوي بين الانقلاب، وهو فعل غير مشروع وغير أخلاقي، وبين الثورة وهي فعل شعبي أخلاقي وشرعي للتحرر من استبداد الانقلاب، وتحقيق تطلعات الشعب في الديمقراطية.

📌 يتغاضى عن حقيقة أن نظام الإنقاذ الذي قامت ضده الثورة، كان نظام استبدادي باطش، ويغفل تمسك الثورة بالسلمية والمبادئ السامية التي رفعتها “حرية، سلام، وعدالة” والتضحيات الجسيمة والدماء التي سالت في سبيلها.

📌 “قحاتة” مصطلح إقصائي، أُطلق تهكما على الحاضنة السياسية الانتقالية على خلفية أزمات اقتصادية، ويستخدمه الباز في مقاله، استخفافًا بجميع أنصار الثورة، وهم عموم الشعب السوداني. ومنهم من قد يكون داخل أسرته أو اهله أو عشيرته أو جيرانه .. الخ.

📌 المصالحة في فهم الباز، ان يندمج أنصار الثورة (الشعب) في السلطة الانقلابية (المؤتمر الوطني)، وهذه صورة مقلوبة تجعل الانقلاب هو “السلطة الشرعية”، والثورة “استهبال ساكت” – وفقا للعبارة التي صاغها لتقرأ في كل الاتجاهات -.

▪ أقول، بصدق وتواضع واحترام، إن الاستاذ الباز في حاجة لإعادة قراءة الوقائع والشواهد بحيادية، بعيدا عن مجاراة مبرارات نفسية يتشبث بها البعض لتبرير الوقوف ضد الثورة.
صحيح، هناك تجاوزات وإخطاء وقعت، لكنها لا تبرر الانقلاب. ولا تنفي حقيقة التحرش والنية المبيتة لافشال الانتقال. ولا تمسّ حقيقة وجود تمكين يستوجب الإزالة، وفساد يستوجب المحاربة، ومظالم تستوجب الإنصاف، وجرائم تستوجب المساءله، كانت ولا زالت ضرورية لنجاح الانتقال الديمقراطي.

▪ لقد لازمت مسيرة الثورة الفرنسية عدة أخطاء، منها العنف المفرط، وعدم الاستقرار السياسي، والفشل الاقتصادي، وإقصاءات ضد خصومها وبين الثوار أنفسهم، بلغت درجة الإعدامات. ومع ذلك، مضت الثورة في طريقها وحققت غاياتها، بل صاغت مبادئ خالدة للإنسانية جمعاء في مجالات الحرية، والمساواة، والعدالة الاجتماعية، لتكون بذلك أعظم ثورة في التاريخ الحديث.

▪ بلادنا اليوم تقف على حافة بركان، ينذر بما هو أبشع مما فعلته بنا الحرب، وكان الأجدر بـ”الباز” أن يزن كلامه بميزان الذهب، وأن يؤدي رسالته المهنية تجاه وطنه وشعبه، بنصح الفريق البرهان بأن يسارع إلى تدارك الأمر، لا أن يعزز لديه الانطباع بأنه قائد “شرعي” لسلطة “شرعية”.

▪ ختامًا، ونحن نعيش أزمة تهدد بالانفجار في اي لحظة، لا بد من التأكيد على أن المبادرة نحو الحل السلمي وإنهاء الحرب مسؤولية التيار الإسلامي الممسك بمفاصل القرار . غير أن ذلك لا يعفي الفريق البرهان، بصفته القائد الأعلى للسلطة السياسية والعسكرية، من مسؤوليته في ضرورة المسارعة الي نزع الفتيل، بالعمل الفوري على إنهاء الحرب سلميا، وفتح باب الحوار أمام القوى المدنية للتوافق الوطني، واستعادة مسار الثورة نحو تحقيق تطلعات الشعب في الديمقراطية، والعدالة، والكرامة الإنسانية.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..