مقالات وآراء

الخرائط الجينية- السيرة الوراثية للإنسان بين هيمنة العالم ووجدان الفرد-

زهير عثمان حمد

في مسار التطور العلمي الذي بلغ ذروته، تحول “الجينوم” من مجرد شيفرة بيولوجية إلى سيرة حميمة مكتوبة بلغة الـ DNA، تحكي ليس فقط أمراضنا المحتملة، بل حكايات الهجرات القديمة
وهمسات الأسلاف، وأسرار الهوية التي نحملها في كل خلية من خلايانا. لكن هذه السيرة الشخصية العميقة أصبحت أيضاً ساحة لصراع خفي بين القوى العالمية الكبرى والشركات العملاقة، وبين الإنسان البسيط الذي يبحث عن فهم ذاته.
المعرفة كقوة عندما تصبح جيناتك مورداً استراتيجياً
لم تكن “مشاريع الجينوم البشري” مجرد مسعىً علميًا محايدًا. لقد كانت، ولا تزال، خططاً استراتيجيةً تهدف إلى بناء أكبر قاعدة بيانات وراثية في العالم. مؤسسات مثل المعاهد الوطنية للصحة (NIH) في الولايات المتحدة أو معهد ويلكوم
سانجر في بريطانيا، وراء واجهتها الأكاديمية، تساهم في خلق نظام جديد للهيمنة حيث تصبح المعلومات الجينية سلعةً ثمينةً وقوةً ناعمة. هذه المعرفة، التي يُفترض أنها تراث إنساني مشترك، يتم احتكارها وتسخيرها لخدمة أهداف اقتصادية
وسياسية، تاركةً الدول والمجتمعات الفقيرة على هامش الثورة البيولوجية، عاجزة عن الوصول إلى أدويتها الخاصة أو فهم تراثها الجيني دون وسيط.
الشركات والحمض النووي تجارة الهوية
ظهرت شركات مثل “23andMe” و “AncestryDNA” لتقدم لنا خدمة تبدو ساحرة: اكتشف أصولك مقابل بضع نقود. ولكن وراء هذه الخدمة البراقة، تقع معضلة أخلاقية كبرى. بياناتنا الجينية وهي أغلى ما نملك، تتحول إلى سلعة
يتم تداولها في السوق المالية، واستغلالها في بحوث تدر مليارات الدولارات على هذه الشركات وشركات الأدوية الشريكة لها، دون أن نحصل نحن، أصحاب هذه البيانات، على أي عائد يذكر، وكثيراً دون فهمنا الكامل لكيفية استخدامها.
لقد أصبحنا، من حيث لا ندري، منتجاً استهلاكياً في سوق التكنولوجيا الحيوية.
الوجه الخفي- من الرقابة إلى تفكيك الهوية
الخطر الأعمق يتجاوز المسائل التجارية إلى المساس بالكرامة الإنسانية ذاتها. في عصر يمكن فيه استخدام بياناتك الجينية لاستبعادك من وظيفة أو حرمانك من تأمين صحي بسبب “استعدادك الوراثي” لمرض ما، تصبح هذه المعلومات
أداة للتمييز الممنهج. وفي أيدي الأنظمة القمعية، يمكن أن تتحول إلى وسيلة للرقابة البيولوجية، وتتبع الأقليات، وقمع المعارضين تحت ذرائع علمية زائفة.
نحن إزاء محاولة لاختزال الإنسان، بكل تعقيده وتاريخه وثقافته، إلى مجرد سلسلة من القواعد النيتروجينية، مسحاً لهويته الإنسانية الشاملة.
إعلان الهوية “أنا مهرية”.. فعل مقاومة وجودي
في خضم هذا المشهد المعقد، تبرز قصة الشخص الذي يعلن: “بعد فحص جيني، أثبت أنني من قبيلة المهريّة الجنوبية”. هذا الإعلان البسيط هو في جوهره فعل مقاومة وجودي.
إنه تذكير بأن هذه البيانات، في أساسها، هي قصتنا نحن.
قصة قبيلة “المهرة” العريقة، بلغتها السامية القديمة وتاريخها العابر للبحار من اليمن إلى شمال إفريقيا، هي شهادة على أن الهوية لا يمكن احتكارها أو طمسها.
هذه المعرفة ليست مجرد فضول حول الأصول، بل هي استعادة لسردية الذات من براثن التهميش والغموض. هي إصرار على أن الهوية، مهما حاولت القوى العالمية تجزئتها واختزالها إلى بيانات، تظل نابضة بالحياة، غنية بالتاريخ
وقادرة على الصمود. إن الإعلان “أنا مهرية” هو تأكيد على أن الإنسان ليس مجرد منتج جيني، بل هو حكاية متواصلة من الماضي إلى الحاضر، حكاية من حقه أن يعرفها، ويحفظها، ويعلنها للعالم، ليس كرقم في قاعدة بيانات
بل كفرد ذي كرامة وإرث وإنسانوية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..