أخبار السودان

ثلاثة وجوه ونافذة للأمل في الاتفاق الإطاري لنقل السلطة في السودان

على الرغم مما تم التوصل إليه في الخرطوم بشأن اتفاق إطاري لنقل السلطة من المجلس العسكري إلى إدارة مدنية، تتولى مسؤولية إعداد السودان لانتخابات عامة وتطبيع الحياة السياسية تماما، فإن الأمور هناك تبدو شديدة الاضطراب والارتباك، بسبب غموض إجراءات الانتقال، ووجود قضايا رئيسية غير متفق عليها تتعلق بجوهر عملية الانتقال السياسي. الاتفاق الإطاري لا يحل مشاكل استمرار السيطرة الفعلية للقيادات العسكرية (البرهان- حميدتي) وفوضى السوق، والفشل في إدارة الاقتصاد، وعدم إصدار ميزانية عامة للسنة المالية الحالية، وتداخل مصالح متعارضة لأطراف خارجية إقليمية ودولية، تشارك في عملية صياغة المستقبل السياسي للسودان، منها قوى «الرباعية» الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة السعودية والإمارات، وقوى «الثلاثية» التي تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وهيئة تنمية حوض النيل «إيقاد». وقد جاء الاتفاق في ظل تدهور اقتصادي شديد، بعد أن جمدت الدول الغربية مساعداتها المالية التي كانت قد تدفقت من قنوات مختلفة بعد نجاح ثورة أبريل الشعبية عام 2019 التي انقلب عليها الجيش بعد إسقاط البشير، وأسقط حكومتها ودستورها، بينما كانت البلاد تستعد لانتقال قيادة المجلس السيادي للقوى المدنية، والإعداد لانتخابات عامة ديمقراطية لإقامة السلطة التشريعية. وقد شهد الاقتصاد خلال السنوات الأخيرة تدهورا شديدا وفسادا في الإدارة، انعكس بصورة سلبية على مستويات المعيشة، والمرافق والخدمات العامة، ومؤسسات الإنتاج بما فيها الزراعة، التي تتحول بمرور الوقت إلى خادم لاحتياجات الدول الخليجية، حيث تستعمل أراضي السودان ومياهه كموارد لتعويض نقص الأرض الزراعية والمياه العذبة في دولة مثل الإمارات على حساب الشعب السوداني. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يكون معدل النمو هذا العام في حدود 2.6 في المئة، وأن يسجل التضخم 77 في المئة تقريبا.

بين الفساد العسكري والتفكك المدني

الهدف الرئيسي للتغيير الذي طرحته ثورة السودان الشعبية عام 2019 هو تحقيق الديمقراطية بنقل السلطة من الجيش إلى القوى المدنية، من خلال تهيئة البلاد لإجراء انتخابات عامة تتسم بالحرية والشفافية والنزاهة. وقد قطع الطريق على تحقيق هذا الهدف تحالف عسكري، يضم الجيش بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقوات التدخل أو الدعم السريع بقيادة «حميدتي» وهي قوات تأسست في ظل النظام السابق، خلال حرب دارفور لتقوم بمهام خارج نطاق القانون، تشمل القتل والحرق والاغتصاب والسرقة والتهريب بكل أشكاله، بما في ذلك تهريب الذهب. قوات الدعم السريع التي ما تزال حتى الآن تعمل خارج نطاق القانون، وتفرض قانونها الخاص، استطاعت السيطرة على موارد متنوعة توفر لها قدرة على تمويل احتياجاتها ماليا خصوصا من تهريب الذهب والسلاح والبشر. وبمقتضى الاتفاق الإطاري سيبقى كل من البرهان وحميدتي في موقعه الحاكم، الأول كقائد للجيش والثاني كقائد لقوات الدعم السريع، وهو ما يعني بشكل غير مباشر تكريس وجود تعارض في المصالح وصدامات واستقطابات داخل الحكومة وفي مجلس السيادة الجديد الذي سيتشكل لاحقا. وكما كان الصراع خلال مرحلة «ازدواجية السلطة» قبل الانقلاب، فإن أقوى السيناريوهات هو أن يؤدي الوضع الجديد إلى حالة من الشلل، أو يقود إلى حالة من الفوضى وزيادة حدة الانقسامات. ومن الطبيعي أن تأتي الميزانية، التي تتضمن الدفاع والأمن والشرطة، في صدارة موضوعات الخلافات المبكرة، بعد استكمال الاستعدادات لنقل السلطات إلى حكومة مدنية انتقالية. وكان التحالف العسكري قد تمتع منذ إسقاط حكومة حمدوك حتى الآن بسلطات مطلقة تقريبا في فرض الضرائب والرسوم وتوزيع الموارد، ومنح الامتيازات للمستثمرين الأجانب، واغتصاب جزء كبير من ثروة البلاد من خلال تهريب الذهب للخارج.
وفي مواجهة الفساد العسكري فإن القوى المدنية تعاني من مقدار لا بأس به من الانقسام الذي من شأنه أن يصب في مصلحة التحالف العسكري من قناتين: الأولى أنه يضعف صفوف القوى المدنية نفسها وتأثيرها في الشارع السياسي، والثاني أنه يسهل للتحالف العسكري اللعب في المياه العكرة واصطياد بعض القوى المدنية واستقطابها للعمل معه ضد غيرها. وهو ما يعني تسهيل سياسة فرق تسد التي اتبعها التحالف العسكري خلال الفترة منذ الانقلاب حتى الآن. ويكفي أن تتفجر الخلافات بين القوى المدنية الموقِّعة على الاتفاق بشأن قضايا مثل مسارات العدالة والعدالة الانتقالية أو الإصلاحات الواجبة في أجهزة الجيش والأمن والشرطة، وإعادة تقييم اتفاق السلام، وآليات تفكيك النظام السابق أو تفكيك الدولة العميقة، ومعالجة مشكلات ولايات شرق السودان، حتى تصبح البلاد ساحة لاضطرابات سياسية، تشارك فيها الأجهزة والولايات والقبائل، بما يمدد فترة انتقال السلطة إلى أجل غير معلوم. إن الفترة الحالية هي فترة حرجة جدا لأنها تتعلق بمفاوضات، نتجت عن ضغوط خارجية، لتجريد تحالف اغتصب السلطة من سلطاته، بينما هذا التحالف ما يزال موجودا داخل السلطة. هذا هو الوجه الأول من وجوه أزمة السودان الحالية.

السباق الجيوستراتيجي

أما الوجه الثاني للأزمة فإنه يتجلى في السباق الجيوستراتيجي على السودان، وهو سباق يشتق أهميته من السباق الاستراتيجي على أفريقيا، وعلى القرن الأفريقي، والشرق الأوسط. إن مسائل مثل أمن البحر الأحمر، وأمن مضيق باب المندب، وشمال المحيط الهندي تلتقي فيها أو تتعارض مصالح القوى الرئيسية في العالم الذي يعيش حالة اضطراب عميق، وصل إلى حد وقوف الولايات المتحدة وحلف الأطلنطي وراء أوكرانيا في الحرب ضد روسيا، وتهديد الولايات المتحدة للصين في تايوان ومنطقة بحر الصين الشرقي والبحر الجنوبي. كما تتداخل في السباق الجيوستراتيجي على السودان مصالح أطراف عربية أهمها الإمارات والسعودية ومصر، وأطراف إقليمية منها تركيا وإسرائيل، تحاول كل منها أن تلعب دورا للمحافظة على مصالحها.
وفي هذا السياق، فإن من الخطأ أن يتوقع أي مراقب لتطور الأحداث في السودان، أن القوى الرئيسية الرسمية المتداخلة في مسارات الأحداث تلعب أدوارا مستقلة لصالح الهدف الرئيسي للثورة الشعبية، الذي يتمثل في تحقيق الديمقراطية. وسواء أخذنا الدول الأعضاء في آلية المجموعة الرباعية، أو الهيئات المشاركة في الثلاثية الدولية مثالا، فإن كلا منها ستفضل مخرجات للعملية السياسية الجارية حاليا في السودان، لا تصطدم بمصالحها. الإمارات على سبيل المثال لن تقبل بتقليص سلطات حميدتي الذي يلعب دورا مهما داخل عصابات التهريب في منطقة القرن الأفريقي الكبير. كذلك فإن إسرائيل، من النافذة الأمريكية، لن تقبل بتقليص سلطات قائد الجيش، الذي يسعى بصراحة مفضوحة إلى ضمان بقائه في السلطة مقابل تطوير العلاقات السودانية مع إسرائيل، وهي علاقات تعاني من الشلل، كما أن الولايات المتحدة ستعارض توسيع نفوذ أي قوة تميل إلى تمكين روسيا من إنشاء قاعدة عسكرية في بورتسودان أو على البحر الأحمر. إن ضمان الحصول على مخرجات قوية وديمقراطية لتحقيق انتقال سلس للسلطة، بطريق ديمقراطي يلبي مصالح السودانيين، لا يتوقف على دور القوى الخارجية، بل على القوى المدنية، التي يجب أن تلتفت إلى أهمية وجود مخرجات صلبة لحوار ديمقراطي سوداني – سوداني، على التوازي مع الجلسات الجارية حاليا لمناقشة القضايا العالقة. بغير ذلك ستتحول المفاوضات من أجل الإعداد للانتقال إلى مجرد مساومات تأتي نتائجها في مصلحة القوى الخارجية، إقليمية كانت أو دولية.

البؤس الاقتصادي في بلد غني

الوجه الثالث لأزمة السودان الحالية، سواء قبل الاتفاق الإطاري أو بعده، يتمثل في تكريس حالة من البؤس الاقتصادي، تتجلى في انهيار قيمة العملة وارتفاع التضخم وشيوع البطالة ونقص السلع الغذائية والوقود، واعتماد الدولة على أساليب التمويل التعسفية بالجباية والتوسع في فرض الرسوم. ولن يستطيع السودان الخروج من حالة البؤس الاقتصادي الحالية بدون تطبيع الوضع السياسي وإقامة نظام ديمقراطي متكامل الأركان، على أساس دستوري، تقوم فيه السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية بدورها في إطار من المسؤولية والشفافية. ومن المتناقضات المثيرة للحزن، أن البلد الذي كان يقال إنه «سلة الغذاء» للعالم العربي، بما يملكه من أراضي خصبة قابلة للزراعة، ومياه عذبة للري، أصبح يعاني من الجوع ونقص الغذاء. كذلك فإن تجميد المساعدات الخارجية أدى إلى عجز الموارد المالية عن توفير الحد الأدنى الضروري لإدارة أجهزة الدولة بكفاءة.
وكان كل من البنك الدولي وصندوق النقد قد اتفقا على خطة متكاملة لإعانة السودان ماليا، وأصدر كل من رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس، ومديرة صندوق النقد كريستالينا غورغييفا بيانا مشتركا بهذا الخصوص في 29 يونيو 2021 أكدا فيه أن السودان يخطو بنجاح على طريق استعادة علاقاته الطبيعية مع المجتمع الدولي، وأصبح مؤهلا للاستفادة من المبادرة المعنية بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون «هيبيك». وتتيح المبادرة للسودان تخفيف عبء الديون بقيمة 23.5 مليار دولار أمريكي. كما سيتم استكمال برنامج تخفيف أعباء الديون بمبادرات إضافية تصل بمجموع المساعدات إلى أكثر من 50 مليار دولار، وهو ما يمثل 90 في المئة من مجموع الدين الخارجي. وقد سمحت الإصلاحات التي قامت بها حكومة عبد الله حمدوك للسودان باستعادة علاقاته كاملة مع مجموعة البنك الدولي بعد حوالي ثلاثة عقود، بما ساعد على توفير منح جديدة من «المؤسسة الدولية للتنمية» بقيمة ملياري دولار تقريبا. وقدم البنك الدولي بالاتفاق مع المانحين مساعدات بقيمة 820 مليون دولار، من خلال برنامج خاص لدعم الأسر الفقيرة. لكن كل برامج المساعدات الدولية توقفت تقريبا بعد ثلاثة أشهر من هذا الإعلان بعد الانقلاب العسكري بقيادة البرهان وحميدتي في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه 2021.

جذوة التغيير مشتعلة

على الرغم من الملامح السلبية للاتفاق الإطاري، التي تبدو من الجوانب الثلاثة السابقة، يتبقى أن نطل على الاتفاق من نافذة للأمل. وهي نافذة تؤكد أن جذوة التغيير ما تزال مشتعلة في الشارع السوداني، بما نشهده من موجة واسعة للمقاومة السلمية في صورة إضرابات واحتجاجات عامة ومهنية يشترك فيها المدرسون والأطباء وأساتذة الجامعات وغيرهم من فئات الطبقة الوسطى. ومع استمرار جذوة التغيير مشتعلة، فإن مسار الاتفاق الإطاري يمكن أن يقود إلى تغيير حقيقي، مع استمرار قوة المقاومة السياسية، ووحدة القوى المدنية، والتنسيق العميق مع الولايات والقبائل. كما أن استمرار العملية السياسية على المسار السليم سيحفز القوى الخارجية على استئناف مساعداتها. وقد أعلن الاتحاد الأوروبي فعلا استعداده لاستئناف التعاون مع السودان، بعد تشكيل حكومة انتقالية مدنية، من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية وتهيئة البلاد لانتقال ديمقراطي حقيقي ومستدام، وهو ما يلقي على القوى المدنية مسؤولية المحافظة على قوة الدفع السياسي وعدم السماح بانتكاس الثورة الشعبية.

تاقدس العربي – ابراهيم نوار

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..